و على الله فتوكلوا
إن كنتم مؤمنين
التوكل على الله خلق ربانى و مقام رفيع من مقامات الربانيين و عبادة من أفضل عبادات القلوب وشجرة طيبة لا تؤتى إلا ثماراً طيبة فى حياة الفرد و حياة الجماعة . و إن حاجة المسلم السالك لطريق الله إلى التوكل حاجة شديدة ، و أحوج ما يكون المسلم إلى التوكل إذا كان صاحب دعوة ، و حامل رسالة ، و طالب إصلاح ، فهو يجد فى التوكل ركناً ركيناً ، و حصناً حصيناً يلوذ به ، فهو ينتصر بالله ، و يستغنى بالله ، و من انتصر بالله فلن يغلب أبداً ، و من استغنى به فلن يفتقر أبداً ، و من استعز بالله فلن يذل أبداً ، ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، و إن يخذلكم فمن ذا الذى ينصركم من بعده ، و على الله فليتوكل المؤمنون ) .
و توكل الرسل و الأنبياء هو الذى حكاه عنهم القرآن ، حيث تحداهم أقوامهم متعنتين ، فواجهوهم بقوة التوكل متثبتين
( و ما لنا ألا نتوكل على الله و قد هدانا سبلنا ، و لنصبرن على ما آذيتمونا ، و على الله فليتوكل المتوكلون ) .
و أولى ثمارالتوكل سكينة القلب و طمأنينة النفس التى يشعر بها المتوكل على ربه و يحس بها تملأ أقطار نفسه ، فلا يحس إلا الأمن إذا خاف الناس ، و السكون إذا اضطرب الناس ، و اليقين إذا شك الناس ، و الثبات إذا قلق الناس ، و الأمل إذا يئس الناس ، و الرضا إذ سخط الناس .
إنها الحالة التى وجدها موسى عليه السلام حين قال له أصحابه " إنا لمدركون " ، و لا عجب أن قال موسى بكل اطمئنان
( كلا إن معى ربى سيهدين ) و كيف لا ، و قد قال له ربه منذ أرسله و أخاه هارون إلى فرعون ( لا تخافا ، إننى معكما أسمع و أرى ) ، و قد هداه الله إلى المخرج من المأزق بأمر لم يكن فى حسبانه و لا فى حسبان أحد ( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) و هذه ثمرة التوكل إذا انقطعت الأسباب .
إنها نفس الحالة التى وجدها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقى فى النار ، فلم يشتغل بسؤال مخلوق من إنس أو ملك ! و لم يشتغل إلا بقوله " حسبى الله و نعم الوكيل " .
وسكنية و طمأنينة وجدها محمد صلى الله عليه و سلم فى الغار حين خاف عليه أبو بكر فقال له " لا تحزن إن الله معنا "
إنها الحالة التى لابد أن يجدها كل مؤمن فى نفسه حين يقال له " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل "
فوحقه لأسلمن لأمره فى كل نازلة و ضيق و خناق !
موسى و إبراهيم لما سلما سلما من الإغراق و الإحراق !
و من ثمار التوكل العزة التى يحس بها المتوكل فترفعه مكاناً علياً و تمنحه ملكاً كبيراً و هى قبس من عزة المتوكل عليه (و توكل على العزيز الرحيم) . فالمتوكل ملك و لكنه من ملوك الأخرة أيقن أن العزة لا تطلب عند أبواب السلاطين و الحكام و هذا شأن المنافقين ( أيبتغون عندهم العزة ) ، بل هى تطلب من باب واحد ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعا )
و من هذه الثمار ايضا القوة التى يحس بها المتوكل على الله و هى قوة نفسية روحية تصغر أمامها القوة المادية ، ونشاهد هذه القوة فى موقف سيدنا شعيب عليه السلام :
( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب و الذين أمنوا معك من قريتنا أو لتعودن فى ملتنا ، قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذباً إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ، و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ، وسع ربنا كل شىء علماً ، على الله توكلنا ، ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين ) .
و أعظم من ذلك : موقفه صلى الله عليه و سلم و هو يحفر الخندق و هو يعد أصحابه بفتح اليمن و فتح مملكتى كسرى و قيصر ، و هو ما جعل أهل النفاق يتندورن و يسخرون ( و إذا يقول المنافقون و الذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غروراً ) ، و هذا شأن المنافقين أبداً ( إذ يقول المنافقون و الذين فى قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ، و من يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم )
و من ثمرات التوكل الأمل فى الفوز بالمطلوب و النجاة من المكروه و انقشاع الغمة ، و انفراج الكربة ، و انتصار الحق على الباطل و الهدى على الضلال و العدل على الظلم . فالمتوكل على الله لا يعرف القنوط إلى قلبه سبيلا و لا يغلبه اليأس ، فقد علمه القرآن أن الٌقنوط من لوازم الضلال و اليأس من توابع الكفر ( و من يقنط من رحمة به إلا الضالون ) ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )
و لرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً و عند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحمكت حلقاتها فرجت و كنت أظنها لا تفرج
فيا أيها المظلوم ويا أيها المكروب ويا أيها المجروح لا تيأس و إن توالت عليك الخطوب ، فإن علام الغيوب سيفرج عنك الكروب ، كما نصر نوح و كشف الضر عن أيوب و رد يوسف إلى يعقوب و فتح لمحمد فتحاً مبيناً ، و إن الذى نصر أصحاب طالوت و هم قلة ، و نصر المسلمين فى بدر و هم أذلة و نصر المسلمين يوم الخندق و هم محاصرون ، قادر على أن ينصرنا اليوم على من بغى و تكبر علينا ، قالها الإمام البنا حين بغى عليه باغون و افترى عليه مفترون :
( سنستعدى على الباغين سهام القدر و دعاء السحر و كل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره )
فلنقرع باب الكريم بالتضرع و الدعاء .
أتهزأ بالدعاء و تزدريه ؟ و ما يدريك ما صنع الدعاء ؟
سهام الليل لا تخطى ، و لكن لها أمد ، و للأمد انقضاء !
فيمسكها – إذا ما شاء – ربى و يرسلها إذا نفذ القضاء !
من ذا يملك فى السموات و الأرض أن يدفع عنا ضراً أو يمسك عنا رحمة ؟
(إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون)
من ذا فى السموات و الأرض يملك للدعاة شيئاً ؟
( و لله غيب السموات و الأرض و إليه يرجع الأمر كله فاعبده و توكل عليه )
من ذا يظن أن له كيد نافذ أو تآمر واقع على الدعوة و الدعاة ؟
( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ، و على الله فليتوكل المتوكلون )
و أفضل التوكل : التوكل فى الواجب ، واجب الحق ، و هو توكل الأنبياء و ورثتهم من الدعاة فى إقامة دين الله و إعلاء كلمته و نصرة دعوته و تأييد شريعته و تبليغ رسالته و جهاد أعدائه و دفع فساد المفسدين فى الأرض الذين يبغونها عوجاً ، حتى يحق الحق و يبطل الباطل و يقوم العدل و ينقشع الظلم و يهتدى الناس و بذلك لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله .
و علامة المتوكل : بذل أقصى الجهد و الأخذ بالأسباب و مراعاتها مع تعلق القلب بالله مسبب الأسباب مع حسن الظن به و الثقة فيه و الرضى بقدره و تدبيره ، " اعقلها و توكل "
( فتوكل على الله إنك على الحق المبين )