بقلم: طارق عبد الفتاح الجعبري
الهداية أصلٌ مغروسٌ في الكون، وفطرةٌ أصيلةٌ في النفس، والحق لا يتجاوزه زمانٌ أو مكانٌ؛ فهو آيةٌ من آيات الله كالشمس والقمر، لا تطمسها أحداثٌ أو يتلاعب بقوانينها بشرٌ، والقيادة ركن تقوم عليها الإنسانية وسنةٌ كونيةٌ لجموع البشرية، موجودةٌ وجود البشر، فيهدي القوم هاديهم إلى سواء السبيل، أو يقودهم إلى ضلال المصير.
والهداية بمفهومها الأول والأوسع هي معرفة العبد لخالقه، وهي الفطرة السوية التي قد تضلِّلها وتعبث بها عقول البشر.. ﴿وَيَقُولُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7).
ونستلهم من هذه الآية والسنة الكونية معنى شاملاً وواسعًا للهداية، فما تزال بارقة الهداية وبذرتها موجودةً مع الإنسان في حياته ومجتمعاته، وهي دالَّة لنا على البحث عن حلِّ مشكلاتنا المختلفة، والاهتداء إلى الصواب والأهدى سبيلاً، وهنا يكون دور الهادي والقائد؛ فهو موجودٌ قد نعلمه وقد لا نعلمه، وقد يكون القائد أو المدير أو من لا تنتبه إليه العيون، وقد نغفل عنه أو نضلَّ الطريق إليه، فحينها يكون الهادي ليس بهادٍ، والقائد يقود نحو المهاوي.. ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ يؤكدها الله عز وجل إن لِكُلِّ قَوْمٍ ولكل مجموعة هاد وقائد ودليل.
وهنا المطلوب أن نبحث عن هادينا للخير وللصواب، وقد نجده في قائد أو داعية أو غير ذلك، وقد يتمثل في موقف أو رأي أو كلمة، كما هي دعوة مفتوحة للجميع أن يأخذ بتلابيب نفسه ومكامن همَّته فقد يكون هاديًا وقائدًا يجمع حسنات غيره ويهديه إلى الصواب حتى وإن لم يكن من رجال الأضواء أو أسماء الوزراء والمدراء.
ونستلهم من قوله تعالى الكثير من المعارف والعلوم التي تغنينا عن أقوال البشر ونظرياتهم في ميادين شتى، والمسلم المتفكر في آيات الله يعيش في ظلالها الوافرة ومراميها السامية، وفي هذه الآية من المعاني والتعاليم في الإدارة وعلومها ونظرياتها الشيء الكثير، فالقوم هم الجماعة من الرجال والنساء جميعًا، وقيل: هو للرجال خاصة دون النساء، وألحقت بهم النساء للغلبة (لسان العرب)، فالقوم تأخذ صورًا شتَّى في عصرنا؛ فهم العائلة والعشيرة والمؤسسة والمنظمة والجمعية والوزارة، وما إلى ذلك، فهي إذًا قاعدة في السلوك التنظيمي للمنظمات، وهي حقيقة لا نظرية في الإدارة.
وقوله تعالى ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ يذكر ابن عباس تفسيره بأنه ولكل قوم داعٍ، وحصرها آخرون- مثل مجاهد وقتادة وغيرهم- بأنه لكل قوم نبي، وقال يحيى بن رافع: هاد؛ أي قائد، فالقائد وجوده متلازم مع الجماعة؛ أيًّا ما سميتها، قومًا أو منظمةً أو مؤسسةً، وقال أبو العالية: الهادي: القائد، والقائد: الإمام، والإمام: العمل، إذًا قد تكون القيادة بالعمل من موظف صغير وليس من مدير، وقد يكون المدير قائدًا، وقد لا يكون، وهو ما يعبَّر عنه في علوم الإدارة في نظريات القيادة، الفرق بين المدير والقائد، والقائد الرسمي والقائد غير الرسمي، وعن عكرمة وأبي الضحى قالا هو محمد (رسول الله) صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: ولكل قوم هاد: من يدعوهم إلى الله عز وجل، وهي الهداية الأكبر والأجل، والتي خلق الناس لها، وخلق الله للبشر عقولاً وهداةً ورسلاً وقادةً ليهتدوا في حياتهم وفي أمور دنياهم وأخراهم، أما الشيعة فيسيحون ويسرحون ويغالون ويقصرونها على سيدنا علي كرم الله وجهه.
وعَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ قَالَ مُحَمَّد الْمُنْذِر: وَاَللَّه الْهَادِي، وعَنْ اِبْن عَبَّاس قَوْله: (وَلِكُلِّ قَوْم هَادٍ) قَالَ: دَاعٍ، وَقَدْ بَيَّنْت مَعْنَى الْهِدَايَة, وَأَنَّهُ الْإِمَام الْمُتَّبَع الَّذِي يَقْدُم الْقَوْم، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُون ذَلِكَ هُوَ اللَّه الَّذِي يَهْدِي خَلْقه وَيَتَّبِع خَلْقه هُدَاهُ وَيَأْتَمُّونَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيه, وَجَائِز أَنْ يَكُون نَبِيّ اللَّه الَّذِي تَأْتَمّ بِهِ أُمَّته, وَجَائِز أَنْ يَكُون إِمَامًا مِنْ الْأَئِمَّة يُؤْتَمّ بِهِ، وَيَتَّبِع مِنْهَاجه وَطَرِيقَته أَصْحَابه, وَجَائِز أَنْ يَكُون دَاعِيًا مِنْ الدُّعَاة إِلَى خَيْر أَوْ شَرّ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا قَوْل أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ مِنْ أَنْ يُقَال كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْمُنْذِر مِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْإِنْذَارِ، وَإِنَّ لِكُلِّ قَوْم هَادِيًا يَهْدِيهِمْ فَيَتَّبِعُونَهُ وَيَأْتَمُّونَ بِهِ.
فلتأخذ نصيبك من الآية، وافعل من الخير، واخطُ من الريادة ما يؤهلك لأن تقدم القوم ويأتموا بك وتكون في مصافِّ القادة الهداة.
وقد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديًا يهديهم، والآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هادٍ يهدي الناس إلى الحق؛ إما نبي منذر وإما هادٍ غيره يهدي بأمر الله، وهنا إثبات لسنة الله تعالى بثبات وجود الحق على مرِّ الأزمنة والأمكنة، ومنها قوله عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، وهنا تلحظ هاديًا وواعظًا ومذكرًا في كل جماعة وفي كل منظمة ومؤسسة، فيظهر لك أحدهم في منظمة يملؤها الفساد؛ يمثل الأمانة والصدق والشفافية والعدالة وما إلى ذلك.
صحيح أن الخبث كثيرٌ ويكثر، لكن يبقى الحق ساطعًا كالشمس يعود ويشرق كل يوم، سواء بشخص أو بموقف أو بكلمة، وهنا الدعوة لنا جميعًا لم لا نكون هداة قومنا ودعاة حق في منظماتنا وقادةً في تجمعاتنا ومجتمعاتنا وتنظيماتنا، وهي دعوة مفتوحة لا يضبطها قرار أو منصب، قد تكون مديرًا ومسئولاً وقد تكون موظفًا خلف الأبواب.
ويذكر الشعراوي في تفسيره للآية أن كل قوم يأتيهم هادٍ يناسبهم، بالآيات التي في وقتهم وزمانهم، ويرسل الرسول بالمعجزة التي تناسب قومه وزمانه ليهديهم إلى الحق، ونحن في هذا العصر وقد يكون أحدنا هاديَ قومه وقائد منظمته فعليه أن يملك من آيات العلم والمعرفة والتكنولوجيا ما يناسب العصر، وعليه أن يتحلّى ويتمثَّل الأخلاق والسلوكيات الحقة الخالدة.
وإجمالي أقوال المفسرين والعلماء في معناه أي كلمة (هاد) خمسة أقوال: أحدها الهادي هو الداعي إلى الحق، والثاني أنه نبي كل أمة، والثالث أن الهادي هو الله، والرابع أنه محمد صلى الله عليه وسلم، والخامس: إن الهادي هو إمام كل عصر، معصوم يؤمن عليه الغلط وتعمد الباطل، ولك أنت أن تبحر في معاني آيات الله وتستلهم معاني الهداية والقيادة وتتمثل دورًا للهادي والقائد في المكان والزمان الذي تختاره لنفسك.