د.مصطفى يوسف اللداوي -كاتب وباحث فلسطيني-
رغم أن الجزائر تبعد عن "إسرائيل" آلاف الأميال، ويفصلها عنها دولٌ وبحار، ولا يوجد أي تهديداتٍ معلنة من قبلها ضد الدولة العبرية، بل أشاعت بعض وسائل الإعلام أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة قد صافح بعض المسؤولين الإسرائيليين، ورغم أن الجزائر غارقة في مشاكلها الداخلية، وأزماتها الاقتصادية، وسلمها المدني الشائك، ومنشغلة في برنامج الوئام الوطني والمصالحة الداخلية، ومهمومة في خلافاتها مع جارتها المغرب حول مستقبل الصحراء العربية، إلا أن إسرائيل أبلغت دول المغرب العربي، عبر حلف شمال الأطلسي "الناتو" ووسطاء أميركيين، بأنها منزعجة من الاهتمامات العسكرية الجزائرية، وأنها "معنية بصفة مباشرة بالأمن في الجهة الغربية من البحر المتوسط ومضيق جبل طارق، والممرات البحرية التجارية المتاخمة للشواطئ الجزائرية والليبية"، وطلبت من قيادة حلف الناتو الذي يرتبط بعلاقاتٍ تنسيقية عالية المستوى مع إسرائيل، بضرورة التحرك الفاعل لضمان أمن إسرائيل في أعالي البحار، فيما اعتبرته تهديداً خطيراً لأمنها القومي، وضرورة منع الجزائر من تحديث أسطولها البحري، إذ رصدت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تنامياً ملحوظاً في القوة البحرية الجزائرية، الأمر الذي يشكل من وجهة النظر الإستراتيجية تحدياً خطيراً لحرية الطيران الحربي الإسرائيلي، وحرية تحرك قطعها البحرية العسكرية التي تجوب بحار المنطقة، بما فيها الشواطئ الغربية للبحر المتوسط .
.
وأبدت بعض الدول الغربية تفهمها للقلق الإسرائيلي المتزايد من تنامي قدرات الجزائر البحرية، وذلك استناداً إلى قرار اجتماع قمة حلف الناتو في استانبول في 28 حزيران 2004 ، الذي أكد على الحفاظ على مصالح وأمن إسرائيل، وتطوير علاقتها وتعاونها الاستراتيجي بحلف الناتو ، ودعا إلى تعميق التعاون الاستراتيجي بين حلف الناتو وإسرائيل، خاصةً فيما يتعلق باهتماماتها بسواحل البحر المتوسط، وتحرص إسرائيل على المشاركة في تدريبات حلف الناتو، والتنسيق مع دول أوروبا الغربية في مجال الأمن وجمع المعلومات، وتطوير العلاقات على المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، ومنع تهريب السلاح والمخدرات، والحيلولة دون استخدام مياه البحر المتوسط في تهديد الأمن الإسرائيلي، وهذه المجالات يستطيع حلف الناتو تقديم مساعدات حقيقية فيها لإسرائيل، ولهذا سمح حلف الناتو لإسرائيل بالمشاركة في بعض المناورات العسكرية التي أجريت في مياه البحر الأبيض المتوسط، ورغم أن إسرائيل تبعد آلاف الأميال عن الشواطئ الغربية للبحر المتوسط، إلا أنها تصر على أن يكون لها دور في كل المناورات البحرية التي تجري، وتطالب في الوقت نفسه بمنع دول حوض المتوسط العربية من المشاركة في هذه المناورات .
.
وكانت الإدارة الأمريكية السابقة قد طالبت الحكومة الجزائرية بتقديم ضماناتٍ وتعهداتٍ مكتوبة بعدم التعرض لأي قطع بحرية إسرائيلية، سواء أكانت القطع البحرية تجارية أو عسكرية، وذلك في حال نشوب حرب إسرائيلية – عربية، وقد حاولت ممارسة ضغوط دبلوماسية على الحكومة الجزائرية لدفعها للاعتراف بالدولة العبرية، وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها، أسوةً ببعض دول شمال أفريقيا، ويبدو أن الجزائر تعرضت نتيجة لموقفها الرافض لتطبيع علاقاتها بإسرائيل إلى سلسلة من العقوبات الأمريكية الخفية، ومازالت الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم نفوذها في المنطقة لإخضاع الجزائر وترويض مواقفها تجاه إسرائيل، وتدعي بأن الأوضاع الداخلية في الجزائر خطرة جداً، وأن البلاد تشهد اضطراباتٍ وقلاقل وصراعاتٍ داخلية، وأن القاعدة تنشط في أرجاء الجزائر، ولذا فإن هناك خشية كبيرة من أن تخضع القدرات العسكرية البحرية الجزائرية لسيطرة عناصر القاعدة والتنظيمات الإسلامية المتشددة، الأمر الذي قد يعرض مصالح إسرائيل وغيرها إلى الخطر في عرض المتوسط، خاصةً أن 60% - 70% من تجارة إسرائيل الخارجية تنقل عبر البحر المتوسط، وتمر من مضيق جبل طارق، الذي يجعلها على بعد 100 ميل من منصات الصواريخ الجزائرية، وهي صواريخ روسية متطورة قادرة على إصابة أهدافها البحرية على بعد 300 كم من منصاتها.
.
ويبدو أن قيادة الجيش الجزائري أدركت خطورة التحركات العسكرية الإسرائيلية في عمق مياه البحر المتوسط، وأحست بمدى تغلغل الأساطيل البحرية الإسرائيلية تحت غطاء علم الناتو، وعلمت أنها تقوم بعمليات رصدٍ واسعة، وجمع معلومات، وتحديد أهداف، وأنها تسخر دول حلف الناتو لخدمتها، وتسهيل أعمالها التجسسية العدائية ضد دول حوض المتوسط العربية، وأعلنت أنه لا يمكنها الغياب عن المشاركة في المناورات البحرية، ومتابعة تنفيذ مخططات الأمن البحري في غرب المتوسط طبقا لقناعة وعقيدة عسكرية راسخة، وكان نائب الأمين العام لحلف الأطلسي مينوتو ريزو قال، إن المغرب والجزائر سيرسلان موفدين عسكريين لحضور مناورات "أكتيف أنديفور" التي قررت إسرائيل المشاركة فيها بقطعة بحرية، وأبدت إسرائيل اعتراضها على مشاركة الجزائر في مناورات حلف الناتو البحرية، وأعربت تل أبيب عن قلقها الشديد من تزايد قوة البحرية الجزائرية، التي باتت تشكل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي، خاصة في ظل تمسكها بموقفها العدائي ضد إسرائيل، ولعل الموقف الإسرائيلي والأمريكي من الجزائر يفسر لنا الكثير من الاضطرابات والمشاكل التي تتعرض لها، إذ ليس من مصلحتهما أن تستقر الأوضاع في الجزائر، وأن يحل الوئام والوفاق بين أبناء الشعب الجزائري، وطالما بقيت الجزائر تعاني من مشاكلها الداخلية، فإنها لن تلتفت إلى إسرائيل، ولن تتصدر قائمة الدول المعادية لها .
.
قد يبدو الأمر غايةً في الغرابة، فإسرائيل تطالب بحرية الملاحة البحرية في أعالي البحار البعيدة عنها مسافة آلاف الأميال، وتطالب بدورٍ في حماية حرية الملاحة البحرية في هذه المياه، وتطالب حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية بالضغط على حكومة الجزائر ومنعها من امتلاك صواريخ قادرة على تهديد قطعها البحرية العسكرية والتجارية في البحر المتوسط، وتدعي أن الجزائر وغيرها تهدد أمنها القومي، وتعرض مصالحها للخطر، وفي الوقت نفسه تخرق إسرائيل أجواءنا العربية، وتجتاح مياهنا الإقليمية، وتعتدي على حرية مواطنينا، وتضاعف من قدراتها العسكرية، ومع ذلك تجد إسرائيل تفهماً لمطالبها من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوروبي، فيمارسون استجابةً للمطالب الإسرائيلية ضغوطاً على الأنظمة العربية لتخليص إسرائيل من الإحساس بالخوف، وإشعارها بالأمن والطمأنينة والأمان، وكأن الدول العربية هي المعتدية، وإسرائيل هي الضحية، وكأن الصواريخ الدول العربية تمطر إسرائيل بصواريخها، وإسرائيل تدافع عن نفسها .كم نتمنى أن تدرك حكوماتنا العربية أن عزتها في قوتها، وأن القوة وحدها هي القادرة على وضع حدٍ لغطرسة إسرائيل، وأننا في حاجةٍ ماسة إلى امتلاك أسباب القوة، وأن نعد لمواجهة إسرائيل ما استطعنا من قوةٍ ومن رباط الخيل، لأن إسرائيل هي المعتدية، وهي الظالمة، وهي المحتلة لأرضنا الغاصبة لحقوقنا، وهي التي تعلن كل يومٍ خوفها من قوة العرب، ومن صلابة المقاومة، ومن صمود الأهل، أفلا نعقل أننا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التسلح بعد الإيمان واليقين بكل أسباب القوة لمواجهة إسرائيل؟...
دمشق في 27/8/2009