مواصفات جيل التمكين
عند العودة إلى كتاب الله نجد أن كلمة مكَّن ومشتقاتـها وردت في ما يقرب من العشرين آية (16 آية)، أثنتا عشرة آية منـها دار مدلول الكلمة فيها حول المعنى الذي نريده؛ وهو أن يجعل الله سبحانـه الممكن لهم خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم ولهم تخضع البلاد والعباد، وتصلح في حال تولي المؤمنين .
وعد الله الذين آمنوا بالنصر والتمكين ثم الظفر بأعدائهم في آيات كثيرة من كتابـه العزيز، والله لا يخلف وعده، فإذا ما تخلف هذا الوعد وتأخر فعلى المؤمنين أن يراجعوا مسيرتـهم وأن يتـهموا أنفسهم ليكتشفوا المثالب والأخطاء التي وقعوا فيها حتى يتجنبوها، ويجب عليهم أن يقتلعوها من جذورها حتى لا تألفها النفوس وتعتاد على العيش في مستنقعها الآسن [كما هو واقعنا اليوم فإلى الله المشتكى].
أ - أولى هذه المواصفات: أنـه جيل يحب الله ويحبـه الله.
قال تعالى: فسوف يأتي الله بقوم يحبـهم الله ويحبونـهم، وهذه أول صفة ذكرها الله في معرض تـهديد من ارتد عن الإسلام، وبالعودة إلى الآيات التي ذكرناها سابقاً نجد أن هذه الصفة من أهم الخصال التي يجب أن يتحلى بـها يريد أن يحقق الله على يديه أمر إعزاز الإسلام والمسلمين.
فتقديم محاب الله ورسوله على الأمور التي جبل الإنسان على محبتـها مثل المال والولد والزوج والعشيرة أو النفس أو غيرهما دلالة كذلك على صدق هذه المحبة ومحك لاختبار دعوى من يتشدق بـها. ويطعمون الطعام على حبـه مسكيناً ويتيماً وأسيراً لماذا؟ إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
ولهذا نقل عن السلف قولهم أن قوماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا محبة الله فاختبرهم الله جل وعلا بقوله في سورة آل عمران: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله [آل عمران: 31]، وتسمى هذه الآية آية المحنة لامتحانـها القلوب في ادعائها هذا.
ومحبة الله عبده رضاه عنـه وتيسير الخير له، ومحبة العبد ربـه انفعال النفس نحو تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينـه [ابن عاشور: 236].
ب - ثاني هذه المواصفات: أنـه جيل مجاهد لا تأخذه في الله لومة لائم: قال تعالى: يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمة، وقال جل شأنـه: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن – إلى قوله – ذلك هو الفوز العظيم [التوبة: 111].
والحديث عن الجهاد وأثره في إعزاز أمة الإسلام يطول، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الأحاديث الصحيحة أن الأمة سيصيبـها الذل والصغار إن هي تركت هذه الشعيرة العظيمة وأنـه لا يُرفع عنـها لباس الهوان هذا إلا العودة الصادقة إلى ممارسة هذه الشعيرة وتربية الأجيال على معانيها وطلب معاليها.
ج - ثالث هذه الصفات: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين: قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينـهم، وقال: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، نعم هكذا كان حال الرعيل الأول، وذلك كان حال معلمهم معهم، وهكذا يجب أن يكون حال من يريد اقتفاء أثرهم وتحقيق الثمرة التي حققوها، من خفض الجناح ولين الجانب عندما يتعلق الأمر بالمؤمنين وبالشدة والعزة والإباء عندما يتعلق الأمر بأعداء الله المحاربين.
يقول ابن عاشور عند آية سورة المائدة: "فالمراد هنا بالذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع، ولذلك علق بـه قوله على المؤمنين... والأعز جمع العزيز، فهو المتصف بالعزة وهو القوة والاستقلال... وفي [أي الجمع بين صفتي الذلة والعزة] إيماء إلى أن صفاتـهم تسيرها آراؤهم الحصيفة [المنقادة للشرع] فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلا عن بصيرة، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون ليناً في كل حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال، قال [الشاعر]:
حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب" اهـ.
د – رابع هذه الصفات: صابر وثابت على المبدأ مهما ادلهمت الخطوب: قال عز من قائل: واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وقال: وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [الأعراف: 137].
اقتضت حكمة الله جل في علاه أن يكون هناك تدافع بين الناس وذلك لوجود الخير والشر والحق والباطل، ومن خلال هذه المدافعة تتمايز الصفوف، قال جل في علاه: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، وهذه الآية الأخيرة جاءت بعد أن بين الله سبحانـه وتعالى أنـه يدافع عن الذين آمنوا وأنـه أذن لهم القتال لهم قال في محكم كتابـه: إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنـهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير لماذا قيل لهم هذا ونـزل لهم هذا التشريع؟ لأنـهم أخرجوا من ديارهم بغير حق: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
فبين سياق هذه الآيات المحكمات وترتيبـها أن هناك فريق مظلوم يجب عليه أن يدفع هذا الظلم الذي حصل له وهو فريق الحق، وأن هناك فريق معتد ظالم متكبر وهو فريق الباطل يجب أن يردع وأن يوقف عند حده.
إن هذا الوضع وهذه السنة بالنسبة للمؤمنين تتطلب منـهم عدة أكبر من عدة عدوهم، فكان من الله أن أرشدهم إلى ذلك قائلاً: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، المصابرة: وهي مقابلة صبر الآخرين والتغلب عليه
فاعقل أخي المؤمن هذه المراحل والزمها وتعقبـها في سير الأولين لتكون على بينة مما نقول واعلم: أن النصر مع الصبر، وأنـه لا يتسع الأمر إذا إذا ضاق، وأنـه بعد العسر يسراً.
قال تعالى: ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا ميل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين [الأنعام: 24
منقول[right]