الصلاح قبل الإصلاح،والفرد قبل الجماعة
عماري جمال الدين – سدرا ته - سوق اهراس
مقدمة:
منذ العقد الأخير من القرن الماضي أصبحت هذه المفردة أكثر تداولا في الأوساط الثقافية والرسمية والدولية،وقد كتبت حولها دراسات وبحوث عديدة،كما عقدت من أجلها مؤتمرات،ودورات وفتحت لها مراكز في نقاط شتى لعلى من أبرزها في العالم العربي مركز الراشد بفروعه لصاحبه صلاح صالح الراشد.كما برز فيها مدربون كثر،من أبرزهم إبراهيم الفقي الغني عن التعريف.وقد دار نقاش طويل ومازال حول تحديد مفهومها ومركباتها ومكوناتها كعلم جديد،واختلف الناس إزاء هذا الوافد الجديد،فمنهم من رفضها مطلقا بدعوى أنها جاءت من الغرب،والبعض الآخر انبهر بها وأقبل عليها بنهم ويرى فيها الحل السحري لكل مشاكلنا،أما الصنف الثالث فيرى من منطلق:"أن الحكمة ضالة المؤن فأنى وجدها فهو أولى بها"
أن كل ما لا يتنافى مع مبادئنا وقيمنا وعقيدتنا وثوابتنا ،مع موروثنا الثقافي الأصيل ولنا فيه مصلحة وفائدة ومنفعة تعود بالخير على الفرد والمجتمع فأهلا وسهلا به.طبعا وإلا فلا.
* الموضوع واسع وشاسع،وهو من الأهمية بمكان نظرا لحاجة الفرد المعاصر لمثل هذه المواضيع،إلا أنني سأحاول بتوفيق من الله عز وجل أن أقف على بعض النقاط التي أراها مهمة،دون الخوض في التفاصيل.
* هناك تعريفات كثيرة لمفهوم التنمية البشرية أكتفي بما ورد في مقدمة الإعلان العالمي عن حق التنمية الذي اعتمد ونشر في4/1/1986 والذي يعتبر التنمية:"عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم،والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها."
* إذا هدف التنمية كما ورد في الإعلان مفاده تنمية الإنسان في مجتمع ما من كل النواحي:السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفكرية والخلقية والبدنية.
* هي تنمية شاملة متكاملة مستدامة،لا تترك أي ناحية من نواحي الحياة حياة الانسان إلا وتعمل على تطويرها وتحسينها.
انطلاقا من الجانب:
- الروحي الإيماني الأخلاقي.
- الفكري المعرفي الثقافي.
- الصحي البدني الجسمي.
- النفسي الأسري الاجتماعي.
- المهني.
- المادي.
* ووفق هذا التعريف فإن الإنسان هو الموضوع الأساس في التنمية البشرية،بل هو جوهر عملية التنمية ذاتها،لأنه إذا كان التأسيس لتنمية شاملة هدفها وغايتها الإنسان يعتبر تحديا،فإن التحدي الأكبر،كيف نصنع الإنسان؟ الذي هو وسيلة التنمية وغايتها الكبرى.
* السؤال المطروح محوري كبير،سؤال قديم جديد متجدد.ويكفي أن الله عز وجل أنزل من أجله الكتب،وبعث الرسل،وشرع الشرائع.وورث من أجله العلم.
السؤال يطرح نفسه في الساحة بإلحاح،خاصة ونحن نعيش عصر العولمة،هذا التيار الكاسح الفاسخ الماسخ خاصة في شقه الثقافي،حيث يسعى لتفكيك كل الهويات والثقافات والقيم والمعتقدات والخصوصيات المحلية والقطرية والقومية،يلتهمها ليتقيأها حسب توجهاته وخلفياته المادية الخاسرة الباطلة.
* إذا ها نحن جميعا نشهد ميلاد قيم جديدة للأسف قيم مادية تتنافى وديننا وعاداتنا وتقاليدنا،نتيجة القنوات الكثيرة التي تبث سموما يتجرعها شبابنا وهو في حالة سكرا لا يدري ماذا يفعل أو ماذا يفعل به؟كذلك الانترنت،وليتهم اقبلوا على ما ينفعهم من هذه التكنولوجيات الحديثة،وما أكثر ما تفيد.
* لقد فرض مصطلح التنمية البشرية نفسه في الخطاب الثقافي والاقتصادي والسياسي على مستوى العالم بأسره.
وترسخ الإقناع بأن المحور الرئيس في عملية التنمية هو الإنسان،فما محل هذا الأخير من الإعراب في فلسفتنا وفي ثقافتنا وفي ديننا كأمة ذات حضارة عريقة ضاربة في جذورها في أعماق التاريخ،وإن كان واقعنا مما يؤسف له، بل يبكي أحيانا. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله :"من يغلغل النظر في علل هذه الأمة يجدها تتنفس في جو فكري خانق،وأن تغذيتها النفسية والفكرية والروحية والاجتماعية رديئة أشد الرداءة." ولكن الأمل في الله كبير،وفي سواعد شبابنا وفي عزائمهم وهممهم العالية إن شاء الله الخير الكثير.
* إذا دور التنمية البشرية مهم جدا في إعداد أفراد يقدرون أنفسهم ويحترمونها،يتحرون عيوبهم ليتخلصوا منها، ويعرفون قدراتهم كي يسخرونها،لأن دور التنمية البشرية باختصار على المستوى الفردي هو التخلص من كل السلبيات التي تعرض لها الفرد خلال مساره الحياتي،وتنمية اتجاه الإيجابيات،أي بالتحرر من العادات السلبية والمداومة على الإيجابيات في كل شؤون الحياة للوصول إلى حياة مليئة بالسعادة والصحة والعافية والنجاح.
ولا يشترط فيها سن فالإنسان يعيش وينمو إلى أن يلقى ربه وهو قابل للتعليم والتدريب والتكوين والاستفادة،ولعلى من أجمل عبارات التنمية البشرية مقولة:"رأسمالك الشخصي مصادرك الجسمية والفكرية والنفسية التي تنمو وتتطور باستمرار."
وقبل 14 قرنا قال صلى الله عليه وسلم:"اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"وقال أيضا:"اطلبوا العلم ولو في الصين."وقال أيضا:"من أراد الدنيا فعليه بالعلم،ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم،ومن أرادهما معا فعليه بالعلم."
* فما محل الفرد والإنسان في ثقافتنا من الإعراب؟
1)-هو قبضة من طين ونفخة من روح.
قال تعالى:"وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين،فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين."
وثبت في الحديث الصحيح عن عبد الرحمان عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق:إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ،ثم يكون علقة مثل ذلك ،ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات:بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد،فوا لله الذي لا إلاه غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع....."الحديث رواه البخاري ومسلم.
2)-تميز الإنسان عن باقي المخلوقات.
- خلق في أحسن تقويم،قال تعالى:"ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم."
- مكرم،قال تعالى:"ولقد كرمنا بني آدم."
- يرتقي في درجة التكريم إن هو استقام على أمر الله،قال تعالى:"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
- جعله سيدا للكون،قال تعالى:"وسخر لطكم ما في السماوات والأرض."
- جعله خليفة في الأرض،قال تعالى:"وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة"
- جعل منهم الأنبياء والمرسلين،قال تعالى:"وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم"
- أعطاه من العقل والروح والأحاسيس والمشاعر ما لم يعط أحدا من العالمين.
- فما السر في كل ذلك ياترى؟
- أكرمه وشرفه وميزه على كثير من خلقه لا لشيء إلا لاستعداده لمعرفة الله سبحانه وتعالى وعبادته وذكره،وإنما استعد لمعرفة الله بقلبه لا بجارحة أخرى من جوارحه.ولذلك كان:
3)-القلب أنفس مضغة في الإنسان.
قال تعالى:"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"
وقال صلى الله عليه وسلم:"إن لله آنية في الأرض أحبها إليه من صفا منها ورق وهي القلوب"
قال أحد العارفين بالله:مكة بيت الله في أرضه،والقلب بيت الله في عبده.
4)-صلاح الحياة بصلاح الإنسان.
وصلاح الإنسان بصلاح أعماله، وصلاح الأعمال بصلاح القلوب، وصلاح القلوب بصلاح النية،ومن صفا صفي له، ومن خلط خلط عليه،ومن لم يخلص يتعثر،إنه لا يخاف عليك التباس الطريق ولكن يخاف عليك غلبة الهوى.
والمتأمل في أحوال الأمة يجد أن سبب ضعف المسلمين اليوم يرجع بالأساس إلى وهن في القلوب،سببه حب الدنيا وإتباع الهوى.وصدق الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال:"لا الفقر أخشى عليكم،ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم..."أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذا صلاح الحياة وفسادها،يكمن في صلاح النفوس والأفئدة والقلوب وفسادها.
5)-جل آيات القرآن،وأحاديث خير الأنام تتحدث عن صلاح الإنسان وقلبه وفؤاده وروحه ونفسه.
6)- النفس عالم كبير تدور فيه أصول الحياة.
قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه "وحي القلم":"إنه من الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك،وتترك الفوضى في قلبك،فصلاح الأعمال بصلاح القلوب،وصلاح القلوب بصلاح النية."
7)-الصلاح قبل الإصلاح،والفرد قبل الجماعة.
قال الإمام عبد الحميد بن بأديس عليه رحمة الله في مجلة الشهاب:"لايستطيع أن ينفع الناس من أهمل نفسه،فعناية المرء بنفسه عقلا وروحا وبدنا لازمة له،ليكون ذا أثر نافع في الناس."
وقال الإمام الشهيد حسن ألبنا:"إذا لامست معرفة الله قلب الإنسان تحول،وإذا تحول الفرد تحولت الأسرة،وإذا تحولت الأسرة تحولت الأمة،وما الأمة إلا مجموعة أفراد وأسر."
-بناء النفوس وتزكيتها هو المقدمة الطبيعية للسلوك السوي،المرغوب فيه دينا وفطرة وعقلا وعلما وتاريخا وواقعا.
قال تعالى:"......ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها،قد أفلح من زكاها ،وقد خاب من دساها..."سورة الشمس.
تأمل السياق القرآني جيدا،لتعرف قصة هذا الإنسان في هذه الحياة ،ودوره ومهمته ورسالته والأمانة التي كلف بأدائها،والغاية التي خلق من أجلها.
9)-الإنسان يملك قدرة على توجيه أفكاره ومشاعره،نحو ما يريد تحقيقه،وما يصبو إليه.
قال تعالى:"والذين جاهدوا فينا،لنهدينهم سبلنا."
وقال صلى الله عليه وسلم:"الكيس فيكم من دانى نفسه وعمل لما بعد الموت،والعاجز فيكم من أتبع نفسه هواها،وتمنى على الله الأماني."
10)-التغيير الحقيقي يحدث من الداخل من الباطن،أما ما كان شكليا صوريا ظاهريا فعمره قصير.أما المؤثرات الإيجابية الخارجية فهي تساعدنا على إحداث التغيير ليس إلا.وتدبر جيدا قوله تعالى:"إن الله لا يغير ما بقوم،حتى يغيروا ما بأنفسهم."
*الخلاصة:
إن أزمة الأمة الحقيقية حسب تصوري هي فقدان الفرد القدرة على التحكم في ذاته،وذلك لأسباب عدة لا يتسع المقام لذكرها،يمكن ذكر بعضها:كالتنشئة الاجتماعية الخاطئة،والبرمجة السلبية التي درجنا عليها،والمحيط الاجتماعي والاقتصادي وغيرهما كثير.
هذه الأزمة خلقت ركاما هائلا من الضعف والتخلف والتبعية وجعلت الفرد عاجزا عن استخدام فكره وحيويته لتحقيق وجوده الإنساني.إذا فلا بد من تحريره من مخاوفه،ومن قيوده وأثقاله،ثم بث الثقة بقدرته وحريته،وتحريك روح المسؤولية بداخله.نعم إن بناء ذات الإنسان هو الواجب الأكثر استعجالا في هذا الوجود،وهو فريضة شرعية،وضرورة حضارية،وحتمية لازمة ،وإلا كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
- فأي قيمة لهذه الحياة،إذا لم يكن فيها الإنسان؟
- وأي قيمة لهذا الإنسان،إذا بني على غير هدى ولا بصيرة ولا استقامة؟
- وأي قيمة لبناء البيوت الشاهقة الفرهة إذا لم يعش فيها الإنسان؟
- بل أي قيمة لأي بناء،وإن كان مسجدا،إذالم يعمر بذات مسلمة صالحة مصلحة؟
وأخيرا أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،وصلى وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،ونفع بكم الأمة إن شاء الله.