بســــم الله الرحمن الرحيــــــــــم
"مازلنا مع تشخيص الداء ..."
عماري جمال الدين
من الأخطاء الجسيمة التي أفرزتها مراحل سابقة - ظاهرة سلبية تحتاج إلى التأمل والدراسة والتحليل لتفاديها مستقبلا، وذلك باستخلاص العبر والدروس، ومن باب " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " - التركيز في تربية وتكوين الأفراد وتأهيلهم للتحقق بملمح معين، على الجانب الإداري التنظيمي السياسي، دون الروحي الخلقي الثقافي. كما لم تعمق معاني العقيدة والتوحيد في النفوس بما يجعل المرء في منأى عن كل شطط أو انحراف. مما جعل العلاقة بين العاملين تخلو من الطلاوة الربانية والعذوبة الروحانية، فالأجواء الجامدة الجافة تبعث دائما على التوتر والحساسية، بعكس الأجواء التربوية الروحية الندية والرطبة بذكر الله ورقابته. قال تعالى: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى." مريم76 إضافة إلى ظروف الحياة الصعبة، وضغوطاتها المختلفة وما يتعرض له الدعاة كغيرهم من البشر من إشكالات وأزمات عاطفية ونفسية واجتماعية ومالية، ومن لا بجد منهم معونة وإسنادا لمواجهة الأزمات وحلها وتجاوزها بسلام فإنه - لا قدر الله- قد يصاب بخيبة أمل وإحباط نفسي يفضيان به إلى عزلة إذا طال أمدها، تجذبه وتبعده شيئا فشيئا عن ساحة العمل والدعوة إلى الله عز وجل، وربما تتشكل عنده قناعات فكرية جديدة، فيكون له موقف آخر، وتموقع آخر. فيبتعد عن ساحة النشاط والحركة والدعوة، مقنعا نفسه بأن الأجواء وطبيعة المرحلة لا تسمح بذلك، وأنه يكفي أن يلتزم الإنسان بدينه في نفسه وفي أسرته. وهو موقف قد لا يقنع به رفقاء الدرب وصحبة العمر. لأن ضغط المحن والابتلاءات والتدافع بصفة عامة سنة إلهية يمحص الله بها عباده ليميز بها الصادق من الكاذب، والقوي الصابر من الضعيف العاجز. فهي المحك الأقوى والامتحان الأكبر. فالمحنة حتمية في حياة المؤمنين لتمحيص الصفوف وتصنيف المعادن وسبر أغوار الإيمان . قال تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا، وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين." نعم هذه طبيعة الطريق وطبيعة الدعوات .وفي الواقع المعيش عينات لما نحن بصدد الحديث عنه، طبعا ولكل رؤيته وتبريراته. والثابت من ثبته الله، والموفق من وفقه الله. وقديما قالوا: " هذا الطريق فمن السالك" وقال أحد الصالحين :" إنه لا يخاف عليك التباس الطريق، ولكن يخاف عليك غلبة الهوى." وفي الحديث النبوي الشريف :" حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات." وليس المقام مقام تفصيل، وإنما مجرد تحليل مقتضب لمعرفة مكمن الداء ليس إلا.
وعلى العمـــــوم ومن خلال تأملاتي وقراءتي للأحداث، واحتكاكي ومعايشتي للأفراد، أعتقد - كما سبق وأن أكدت هذه الحقيقة - أن المرض مرض قلوب وأن المشكلة مشكلة قلوب، وأن الخلل ناتج عن العوامل التاليــة :
* ضعف الجانب الروحي والتربوي والثقافي.
* الانشغال بأمور الدنيا وجعل مسألة العمل للإسلام مسألة ثانوية في الحياة.
* الخوف على النفس من المحن والشدائد والابتلاءات.
* اليأس من التجارب الفاشلة السابقــــــــــــــــــــــــة .
* كثرة الضغوطات الأسرية والاجتماعية والحياتية بصفة عامــــــــة.
* الركون إلى الدعة والكسل والخمول، والتهرب من التبعات الدعوية.
إن أعقد شيء في هذا الكون هي النفس البشرية، وليس من السهولة، سبر أغوارها، وكشف أسرارها وخباياها، والاطلاع على أدق خباياها. ومن خلال علاقتها بالدنيا وزخارفها يمكن رصد اتجاهها لتحديد منازل الرجال ومعرفة معادنهم. لقد قامت حركة الحياة كلها بعد المبادئ والثوابت على السلطة والمال. وشكل المال والسلطة عبر التاريخ كله محوري الصراع بين البشر، وقد كان للإسلام موقف المعالج لأمراض النفس البشرية، بتطهيرها من الأطماع، والترفع فوق مظاهر الزحام على المال، والابتعاد عن كل المسالك المؤدية إلى التدافع بالمناكب على المغانم الزائلة، فأبرز القيم الأخلاقية العليا، ودعا إلى إيثار ما عند الله، على ما في أيدي الناس. فالمال لصيق بالنفس البشرية، بل هو أحب شيء لها.لقوله تعالى: " وتحبون المال حبا جما." لذلك كانت فتنة الثراء أخطر من فتنة الفقر، لقوله صلى الله عليه وسلم:" والله ما الفقر أخشى عليكم..." الحديث. لذلك دأبت التربية النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام من أول يوم على المناصحة والمكاشفة والمصارحة بحقائق الأشياء، والصحابة يقولون كان رسول الله يفرغنا ثم يملؤنا، أي يفرغ العقول من الشبهات، والقلوب من الشهوات، والنفوس من أطماعها وأهوائها، وفي الحديث الشريف: "... ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه..." فسلعة الله غالية، والطريق محفوفة بالمكاره. وعملية الإفراغ والملأ ليست عملية ميكانيكية جافة، لأنها متعلقة بالإنسان وبناء الإنسان وعواطف الإنسان ومشاعر الإنسان، وعندما نقول الإنسان، فإننا نعني كل ما يمور في نفسه، من مشاعر وعواطف وأحاسيس، وما يدور في عقله من أفكار وتصورات ورؤى، وما تراكم داخله من رواسب وثقافات واتجاهات. نعم في رحلة التطهر هذه لا بد من اطلاع على دقائق خبايا النفس، وتعرية نواياها ومقاصدها وشهواتها الخفية. بصراحة لابد من خطوات ثقيلة على النفس، ولكنها لازمة لإعادة الأمور إلى نصابها.فإنه لا يمحق الشهوات إلا خوف مزعج أو شوق مقلق، فالخشية من الله تمنع اتباع الهوى. إن تزكية النفوس وتطهير القلوب أصعب من علاج الأبدان. ولكنه الطريق الأوحد لا طريق غيره. وبصراحة نحن اليوم جميعنا في حاجة ماسة لتصحيح مساراتنا، وتقويم سلوكاتنا، وتهذيب أخلاقنا، وتجديد حياتنا، وتقوية إيماننا، وإعادة ترتيب كل أوراقنا. والله عز وجل هو الموفق إلى كل خير وبر، والهادي إلى صراطه المستقيم، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم، وصحبه وآل بيته أجمعين.