بسم الله الرحمين الرحيم
كيف يشرق قلب ...
عماري جمال الدين
من لآلىء القول ودرر الحديث، ما أورده أحد أطباء القلوب صاحب القامة الكبيرة والقدم الراسخة في العلم ابن القيم رحمه الله في مدارجه
إن في القلوب وحشة لايزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلوب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله...إلخ) فعدد من الأمراض أهمها وأعظمها وأخطرها. فذكر الوحشة والشعث، والحسرة والحزن، والفاقة والقلق. وهي أعراض وظواهر لعلل وأدواء إذا تمكنت من سويداء الفؤاد أردته صريعا. والملاحظ أنه يعرض الداء وبعده مباشرة يصف الدواء. يسأل السائل: وهل مثلها موجود في عصرنا؟ والإجابة: نعم وأكثر. وإلا فماذا تنتظر لما تضعف الصلة بالله، ويبتعد الناس عن منهج الله، فيهجرون القرآن، ولا يهتدون بسنة خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، إلا الضياع في صحاري الفتن وأوحال الشهوات. فالقلق والجفاء والتمزق النفسي، والإحباط والغم والهم والضجر والحزن الذي تحسه وتلحظه على محيا كثير من الخلق، ،والذي أصبح بضاعة رائجه في هذا الزمان، ما هو إلا نتيجة طبيعية للبعد والتقصير في جنب الله، وفي معرفته وطاعته وعبادته عز وجل. وصدق الله العظيم حيث قال: " وأما من أعرض عن ذكري، فإن له معيشة ضنكي، ونحشره يوم القيامة أعمى..." ألا ترى أخي الكريم أن الكثير منا مقصر في ذكر الله عز وجل، انطلاقا من عدم المحافظة على الصلوات، وغياب الخشوع فيها، حيث تؤِدى أشكالا وطقوسا، وقس على ذلك كل العبادات الأخرى من صوم وحج وعمرة... فلا تكاد تلمس تحقق سر وحكمة الشارع الحكيم منها، إلا ما ندر. والعيب فينا والخلل عندنا ، فأنى يستقيم أمرنا ونحن على هذا الحال؟ فلا بد أن نسعى لتغيير ما بأنفسنا، بتطهير بواطننا وإصلاحها ليغير الله حالنا إلى أحسن حال. وقد ثبت في الحديث الشريف : " أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يارب يارب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له." قال الشاعر: (ترجو النجاة ولا تسلك سبيلها *** إن السفينة لا تجري على اليبس ) والحكمة تقول : ( وهل يستقم الظل والعود أعوج ؟) فينبغي أن نأتي البيوت من أبوابها. فالتقصير المخل في أداء العبادات يورث عمى وقسوة ، وانطماسا في البصيرة والعياذ بالله، وهو من أعظم ما يبتلى به المرء في هذه الحياة الدنيا. ولما كان القلب بمثابة الملك من الأعضاء والراعي من الرعية، كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجها أهم ما تنسك به المتنسكون. ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه. وزين له من الأقوال والأعمال مايصده به عن الطريق، ونصب له من المصايد والحبائل والمكر ما لا يعلمه إلا الله، إذ لا نجاة من مصائده ومكائده إلا الاستعانة بالله، والتجاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الحقة التي إذا تلبس بها العبد دخل في ضمان: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان." ولذلك تجد الكثير يطرح مثل هذه الأسئلة كيف يزكي المسلم نفسه ؟ كيف يصلح حاله؟ ما هي السبل المؤدية إلى التقوى، والتحقق بمقام الإحسان؟ فيسأل نفسه لماذا لا أخشع في صلاتي؟ لماذا لا أجد لذة وأنا أتلو القرآن؟ لماذا لا أجد حلاوة في الطاعات والعبادات المختلفة؟ لماذا لا أمكث في المسجد كثيرا؟ لماذا لا أستطيع أن أخلو بنفسي ولو لنصف ساعة في اليوم متأملا في نفسي وحياتي وفي هذا الوجود من حولي؟ لماذا؟ لماذا؟ ....وأسئلة أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، وهي أسئلة مشروعة ومهمة.
والجواب عن هذه الأسئلة وأخرى تشبهها يوافينا بها العالم الجليل ابن عطاء الله السكندري في قطعة نثرية من الطراز الرفيع، قل ما يجود الزمان بمثلها. فاقرأها معي أخي القاريء، وتأملها، وخذ من نفحاتها وبركاتها ما استطعت، علك تجد فيها ضالتك وما يثلج صدرك ويقوي عزيمتك بإذن الله، فهي مستقاة من نور الوحي ومن مشكاة النبوة. - وأحسب أنها إجابات مقنعة، تمثل علاجات صحيحة لبعض التشوهات والأمراض السلوكية المنتشرة في حياتنا اليوم - يقول رحمة الله عليه : ( كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته ؟ أم كيف يرحل إلى الله، وهو مكبل بشهواته ؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله، وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار، وهو لم يتب من هفواته؟) انظر معي كيف ينفي اجتماع الضدين، بل ويتعجب من ذلك، فالأكوان والأغيار قد تمكنت من سويداء الفؤاد، حتى أصبح يعتقد أنها تضر وتنفع من شدة تطلعه لها وتعلقه بها وركونه إليها. فأنى له أن يشرق؟ مع العلم أن إشراقه بنور الإيمان، مضاد للظلمة التي استولت عليه بالركون للأغيار. 1)- فكيف يجتمع نور وظلمة في قلب وهما ضدان؟ 2)- وكيف يرحل إلى الله، وهو مكبل بشهواته؟ فالمقيد لا يمكنه السير وهما ضـــدان أيضا. 3)وكيف يطمع أن يدخل حضرة الله، ودائرة ولايته، وهي مقتضية الطهارة، وهو لم يتطهر من غفلاته الشبيهة بالجنابة؟ فدخول الحضرة مضاد لما هو عليه من جنابة الغفلات، - 4)-وكيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار- المتوقفة على التحرر من المعاصي – وهو لم يرجع عن معاصيه؟ ففهم دقائق الأسرار لا يكون أبدا مع الإبقاء على المعاصي.
وإذا أردنا بالفعل أن تشرق قلوبنا، وأن نحي الحياة الطيبة السعيدة في الدارين، فإنه لا سبيل لذلك إلا في رحاب ديننا الحنيف، وقوفا عند كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم. إيمانا وفهما ،علما وسلوكا والتزاما صحيحا صادقا. قال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا." ولنحارب في أنفسنا حب الدنيا والتعلق بها، وندعو الله دائما أن يجعلها في أيدينا وليس في قلوبنا، ولنحذر الميل إلى الشهوات وما أكثرها في عصرنا، ولا نعطي فرصة للغفلات والهفوات، كي تتسرب إلينا فتفسد علينا أعمالنا وأوقاتنا وأعمارنا، ولنبتعد ونقلع عن المعاصي فإنها نار محرقة مهلكة للبدن مخدرة للعقل والقلب معا. قال الشاعر الحكيــم : رأيت الذنوب تميت القلوب *** ويورث الذل إدمانها.
حياة القلوب ترك الذنوب *** فخير لنفسك عصيانها.
يقول معاذ حوى ابن العالم الجليل سعيد حوى - رحمه الله - في مقدمة حديثه عن علم التزكية والسلوك في موقعه الشخصي: ( طريق الجنة لا يكفي فيه تعلم العقيدة واعتقادها، وتعلم الفقه والعمل به، بل لابد معه من التزكية والصلاح. والتزكية مطلوبة من كل فرد في المجتمع المسلم. قال تعالى: " قد أفلح من تزكى "الأعلى14التزكية مطلوبة من كل فرد من المجتمع المسلم، ولا يمكن أن ترى الأثر العظيم لتزكية النفس حتى تظهر في المجتمع كله، عبادة حقة واستقامة وخلقا راقيا وأدبا رفيعا وحسن معاملة، وغير ذلك. لأنه لا يمكن أن تقوم حضارة راقية تسعد البشرية إلا على حقائق سليمة، ومعاملة طيبة وأخلاق راقية. وكل حضارة تنقصها المباديء والعقائد السليمة والأخلاق الفاضلة والمعاملات الصالحة فهي مهددة بالزوال لا محالة...)