لا للشهــــوات الحـــــــرام ..(13)
عماري جمال الدين
عبارة ينبغي أن ينطق بها لسان حال كل مؤمن، قبل أن يقولها بملء فيه، مذكرا بها نفسه كلما همت باقتراف ذنب أو اقتراب نحو شهوة محرمة. عبارة من السهل أن نرددها، وأن نقولها للآخرين، ومن الصعب أن نخاطب بها أنفسنا، وأن نتحقق بها. " ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه..." (1) فتارة يجد العبد قلبه ممتلئا إيمانا وخشية، مما يورثه سعادة وأنسا وانشراحا وطمأنينة، وتارة يضيق عليه صدره، ويضعف الإيمان في قلبه، وهذا حال ابن آدم، فالإيمان يزيد بالطاعات والقربات وينقص بالمعاصي والآثام، كما عند أهل السنة والجماعة.
الله عز وجل أعطانا عقولا وركب فينا شهوات. ومنحنا حرية اختيار. وندبنا إلى عبادته واتباع شريعته فأمرنا ونهانا، ووصف لنا حال من يطيعه ويتقيه، وعاقبة من ينكص على عقبيه ويعصيه في العاجل والآجل. فهو سبحانه عز وجل خلقنا ليبتلينا، ورزقنا ليكفينا، وكلفنا ليسعدنا. " ... الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور"(2) والكيس من يفهم ويستوعب هذا الخطاب الرباني الحكيم، فيعرف السر والغاية من وجوده والرسالة المنوطة به. فيسعى جاهدا صادقا في تزكية نفسه وتهذيب أخلاقه، وتطهير قلبه وتصفية باطنه، وإصلاح حاله قبل فوات الأوان وانقطاع فرصة العمر التي كما نعلم مرة واحدة غير قابلة للإعادة. والمحصلة سعادة أبدية أوشقاء أبدي، " فإما جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفذ عذابها " (3) ، قال تعالى: " فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى "(4)
وما على المؤمن إلا أن ينتبه ويهتم بقلبه ويتفقده في كل حين وأن يكون حارسا أمينا على أعز ما يملك. ويعالج ما يعكر صفوه في حينه وأن لا يتساهل في ذلك، ويتحرز ويحتاط. لأن مرض القلب خفي، قد لا يعرفه صاحبه، " وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم ."(5) وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، لأن دواءه مخالف الهوى، ولهذا صار الداء عضالا. فالقلب إذا غفل دخلته أهواء النفس فهيمنت عليه وسيطرت. " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا."(6) وحينها يحل دمار ما بعده دمار، ويتبعه هلاك وبوار، وإذا تداركته صحوة فرفضته وجاهدته، أبقت على صفاء فطرته. فالبدار البدار للمعالجة .
يصف ابن القيم الدواء فيقول: " دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة، ودافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة، وحارب الشهوة فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تفعل صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة، فيصعب الانتقال عنها. لأن للعادات سلطان على النفوس، وهيمنة على القلوب." (7) أما الكيس الفطن فيلحظ ببصيرته الفتنة وهي قادمة، ويتحسس أجواء الابتلاء، فتجده حذرا متيقظا لا يتساهل مع نفسه. بل يحدثها. هل هذا الأمر مقبول شرعا ؟ هل يرضي المولى عز وجل ؟ أنافع هو أو مضر ؟ فيقف عند الحد، مهما كانت دوافعه النفسية. لأن الخير كل الخير فيما أمر به الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والشر كل الشر فيما نهى الله ورسوله عنه. " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " (
وفي الحديث " الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس، وإذا غفل وسوس ."(9) فالخطرة السيئة يتوجب طردها مجرد أن تظهر، لأنها تفتح باب شركبير، وإلا سيتطور الأمر نحو الأسوأ، وكل ما يأتي بعدها أخطر وأكثر ضرا. تأمل المقولة جيدا (خطرة – فكرة – شهوة – عزيمة وهمة – فعل – عادة - ) وإذا وصل الأمر إلى هذا المستوى تعسر المعالجة بالفعل، وإن كانت ممكنة، إذا استعان العبد بمولاه وفر إليه واستغفر وأناب، ولزم الطاعة والذكر، وأعلن ضعفه وعجزه التام ، وتبرأ من كل حول وقوة وطول، منخرطا في دعاء لا يمل "سبحانك ربي ظلمت نفسي، وعملت سوءا فاغفر لي " "لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ." " ربنا إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننا من الخاسرين." " اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك " مستحضرا قوله تعالى: " قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم."(10) إنها دعوة صريحة للتحرر من العادات السلبية وكل الرواسب والشرور، وتنبيه حكيم لمقاومة الشهوات والشبهات والحيلولة دون وقوعها، والوقوف سدا منيعا أمامها وإجهاضها في بداية تكونها، أي منذ ظهورها في شكل خطرة أومجرد وسوسة. فيستشعر العبد المؤمن الخطر، لأنه يعلم يقينا أن النار من مستصغر الشرر، وأن الخطوة بعدها خطوات. " ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان... " (11) فيرفضها بعقله، ويمجها بفطرته السليمة، ويفر منها بقلبه ووجدانه وبكل جوارحه. لأنه امتلأ يقينا واعتقادا أن المحرمات مهلكات مفسدات للقلب والعقل، وللجوارح والبدن، إنها أخطر من نار محرقة. حينها يقولها بملء فيه وكله عزم ويقين: "لا هذا حرام" ، لا ولن أفعله، طيب لماذا ؟ باختصار شديد، لان الله عز وجل حرمه.
ولأجل عسر الاستقامة، أمر العبد أن يقول في كل يوم مرات عديدة: " اهدنا الصراط المستقيم ..."(12) وفي الدعاء المعروف: "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " إن مقارعة أهواء النفس ونزواتها ورعوناتها ليس بالأمر الهين ، ولولا رحمة الله وفضله وهدايته ولطفه وتوفيقه ما زكى وما تطهر منا أحد، فمن المولى عز وجل البر الرحيم الودود الكريم الستار الغفار الرحمان الرحيم نستمد الحول والقوة، " إياك نعبد، وإياك نستعين. " (13) وتبقى المجاهدة خلقا لا ينفك عنه مؤمن، مادام فيه قلب ينبض، والصبر سلاح المؤمن في هذه الحياة الدنيا، فالطاعة تحتاج إلى صبر، ومقاومة الشهوات تحتاج إلى صبر، والرضى بالقضاء والقدر يحتاج إلى صبر، ولا غروه فالإيمان نصفه شكر ونصفه صبر، ولا مجاهدة من دون صبر. وقد وعد الله عز وجل كل من يبذل جهدا في هذا الاتجاه بالتوفيق للهداية. " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ."(14) ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة. فإذا كنت تريد النجاح والفلاح، تريد السعادة في الدنيا والآخرة، تريد أن يحبك الله، تريد الفوز برضوانه. هذا يحتاج إلى بذل جهد، إلى انضباط، إلى مغالبة وتحكم في النفس الأمارة بالسوء. وفي الحديث عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري (ض)قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله، تملآن - تملأ- ما بين السماوات والأرض..."(15) قال أبو حامد الغزالي وهو يشرح هذا الحديث، "هناك أربع مستويات لفهم الحديث. المستوى الأول: أن تطهر أعضاءك من النجاسات والقاذورات، أي أن المؤمن نظيف بالمعنى المادي. المستوى الثاني: أن تطهر جوارحك من المعاصي والآثام. المستوى الثالث: أن تطهر نفسك من الأخلاق المذمومة، كالكبر والحسد والغضب.. المستوى الرابع: أن تطهر قلبك مما سوى الله."
ما أصلح الإنسان من نفسه شيئا أعظم من قلبه، ولا التمس طريقا أجل من رضوان ربه، ولا التمس كتابا أصدق من كتاب الله، ولا هديا أبلغ من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والعبرة بسريرة المرء وقلبه. فمن أحسن سريرته، أحسن الله علانيته، وقد قيل " ما أسر عبد سريرة، إلا ألبسه الله رداءها علانية. " ومن أصلح مابينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته، أصلح الله أمر دنياه، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله. وإذا امتلأ القلب بشيء لم يبق فيه متسع لغيره. فليس للقلوب سرور، وليس للصدور انشراح إلا في صدق العبادة، وإخلاص المحبة، وتمام الذل والخضوع، وصرف البصر والبصيرة عن الالتفات إلى ما سوى الله ذي الجلال والإكرام، وعلى الله التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. – يتبع -
- (1- الآيـــــــــة 16- ق) - (2 – الآيـــــــــــــة 2 الملك)
- (3 - الإمام علي (ض) )- (4 – الآية 37...41 النازعات)
- (5 - مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي)
- (6 – الآية 28 الكهف)- (7 – الفوائد لابن قيم الجوزية)
- (8 – الآية 201 الأعراف)- (9 – رواه البخاري)
- (10 – الآية 15 الأنعام )- (11 – الآية 21 النور)
- (12 – الآية 5 الفاتحة)- (13 – الآية 4 الفاتحة)
- (14 – الآية 69 العنكبوت)- (15 – رواه مسلم)