" لا للذنوب والمعاصي ."
عماري جمال الدين
* الإنسان والتنمية الشاملة
لا ريب أن أمتنا اليوم وهي تقف موقف الصمود في وجه العدو، بكل ما تمثله التحديات الاستعمارية والصهيونية من أخطار، وما تعانيه من إشكالات على مستوى الداخل. في حاجة ماسة إلى تكاتف جهود جميع أبنائها المخلصين رغبة في الصالح العام، ومن أجل تنمية شاملة تدفع بالبلاد والعباد إلى التقدم والرقي والازدهار، وعلى رأس هذه الاهتمامات والأولويات العناية بالإنسان، على اعتبار أن المورد البشري أهم مورد تختزنه الدول والأمم والشعوب في رصيدها عبر التاريخ، بل هو الأساس الذي يعول عليه كثيرا لكسب رهانات الحاضر والمستقبل. مع العلم أن رأسمال الإنسان الحقيقي هو مصادره الجسمية والفكرية والوجدانية والاجتماعية التي تنمو وتتطور باستمرار ؟ فالعناية بالفرد عقلا وروحا ووجدانا أمر لازم لا يختلف فيه اثنان عاقلان. لأن الإنسان هو حجر الزاوية، ووسيلة التنمية وغايتها في آن واحد. وإذا كان التأسيس لتنمية شاملة يعتبر تحديا، فإن التحدي الأكبر، كيف نصنع الإنسان ؟
* صياغة الشخصية الإسلامية
ولإعادة تشكيل العقل العربي المسلم لإخراج الأمة من حالة التيه والسبات العميق، إلى اليقظة والقيادة والريادة. نحتاج إلى مزيد من تعميق مفاهيم الإسلام في قضايا العقيدة والفكر والسلوك والأخلاق، لإيجاد شخصية ربانية " تؤثر الخالق على الخلق، والآخرة على الدنيا، وباعث الدين على باعث الهوى. "(1) شخصية متزنة معتدلة، تفهم دينها وتعي واقعها. تبني وطنها وتخدم أمتها. تملك عقلا ذكيا وفؤادا نقيا وبدنا قويا. هذه بعض ملامح الإنسان الذي نريد. حيث تراه بدنا ينمو وفكرا يحلل، نفسا تزكو وروحا تسمو، ويدا تعمل. إيجابية على كل المستويات، إن على مستوى التفكير والمشاعر، أو على مستوى المواقف والسلوك. أو على مستوى الإنجاز وترك الأثر الطيب. يتقن لغة الأعمال قبل لغة الأقوال. فهو كالغيث أينما وقع نفع. وصدق من قال: " نريد الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه وعاطفته، وفي عمله وتصرفه."(2) إن التربية تعني صناعة الرجال، من أجل التحقق بمواصفات معينة محددة. إذا تمثلها الفرد وتحقق بها حقيقة، تعكس الوجه الحضاري المشرق لهذا الدين. والذي جعل الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فما أحوج أمة الإسلام إلى تربية أفرادها على هذه القوة وهذا السمت. لأن أول أنواع القوة قوة العقيدة والفكر، قوة الأخلاق والعلم والثقافة، ثم تليها أنواع القوة المادية الأخرى. فلا تقاس الجماعات والدعوات بكثرة المنتسبين إليها،ولا مجرد انتشارها في أنحاء العالم، وبشهرتها، بقدر ما تقاس بنوعية الفرد من حيث: صحة فهمه لدينه، وسلامة عقيدته، وقوة إيمانه، ونبل أخلاقه، وتمسكه بمبادئ دينه وأصوله ومقاصده.
* المعاصي سببها الغفلة
إن أعظم ما في هذا الوجود هو الشعور برضا الله عن العبد، والدخول في طاعته. ولكننا في خضم الحياة، وفي شعبها ودروبها كثيرا ما ننسى هذا الأمر الجليل، بسبب كثرة الذنوب وتراكم العيوب، واللهث وراء بريق الشهوات الفانيات. حقيقة وواقع ينبغي أن نعترف به. إن الواحد منا ليصنع الذنب ويقدم على المعصية غير مبال بما يترتب عليها في الدنيا من ضنك، وفي الآخرة من عتاب. تمر بنا الأيام وتنزع منا انتزاعا، وتنتهي منا الأعمار ونحــــن في غفلــة ساهــــون. " اقترب للناس حسابهم، وهم في غفلة معرضون، ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم ..."(3) فكيف ينجو العبد من عيوب نفسه، وهو الذي أطلق لها الشهوات ؟ أم كيف ينجو من اتباع الهوى، وهو لا ينزجر عن المخالفات ؟ " لا تطمع أن تصحو وفيك عيب، ولا تطمع أن تنجو وعليك ذنب."(4) لقد قسم القرآن الكريم الناس إلى طائعين أو عصاة، خاشعين أو قساة، إلى من سمت نفوسهم عن الأهواء والشهوات، ومن أركعتهم الأهواء وأطاحت بهم الشهوات، إلى من طوع هواه لرضى ربه ومولاه، ومن طوعه هواه، إلى أهل هدى وأهل هوى. فانظر أين تصنف نفسك ؟
*كن حارسا على قلبك
فالقلب محتاج إلى ما يحفظ عليه قوته، وهو الإيمان والطاعات، ومحتاج إلى حمية من الضار المؤذي.. وذلك باجتناب الآثام والمعاصي وأنواع والموبقات، ومحتاج إلى استفراغه من كل مادة فاسدة تعرض له، وذلك بالتوبة النصوح ولزوم الاستغفار. ولا ريب في أن علة التلبس بالمعاصي سببها، كما ورد في الآية السالفة الذكر الغفلة. الغفلة عن الله وسببها قلة ذكره سبحانه عز وجل، وتعلق القلب بغيره من المحبوبات. الغفلة عن أوامر الله سببها عدم الرغبة فيها، وتعلق القلب بالهوى والشيطان. الغفلة عن اليوم الآخر سببها قلة المذكر بالموت والحشر والجنة والنار، وإذا تمت الغفلة بأركانها الثلاثة، ثقات على العبد الطاعات.. وشمرت النفس للمعاصي، وآثرت الدنيا على الآخرة، وقدمت الشهوات على أوامر الله، وتجاوزت العدل إلى الإسراف، وقدمت مراد النفس على مراد الرب، كما قال سبحانه: " فخلف من بعدهم خلف، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا." (5) إن للعقول والقلوب أغذية تقوى بها وتسمو، تصح بها وتنمو، فالقلب يزكو ويصحو ويصح بمعرفة الله ومعرفة دينه وشرعه وسنة نبيه. ويفسد بالجهل بذلك وإتباع الهوى، وارتكاب المعاصي والموبقات، وطاعة الشيطان، والإعراض عن الله ورسوله ودينه.
* أثر المعاصي على حياة الانسان
وكما أن الطاعات لها آثار طيبة ونافعة، فإن المعاصي لها آثار سيئة ومؤلمة كذلك. فهي سبب حدوث الأضرار والشرور، ونزول العقوبات السماوية فما نزل بلاء إلا بذب، وما رفع إلا بتوبة. " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير." (6) وآثار المعاصي كثيرة ومتعددة، تشمل المصائب البدنية كالأمراض والعاهات والحوادث السيئة والموت والفتن وتسليط الأعداء وتشمل العقوبات السماوية كالقحط والجدب وغور المياه وقلة الثمار أو فسادها والصواعق وما إلى ذلك. ومن أخطر آثار الذنوب والمعاصي ما يتعلق بالقلوب وقسوتها. وقد عدد ابن القيم في كتابه الجواب الكافي عقوبات الذنوب والمعاصي، فذكر:
1) حرمان العلم النافع. فالعلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي، لكي يورثهم الله حقيقة العلم، ومن حرم العلم تخبط في دنياه، وسار على غير هدى مولاه.
2) الوحشة بين العبد وربه. وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان.
3) الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه. فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته، حتى يقع في البدع والضلالات. عن ابن عباس أنه قال: " إن للحسنة نورا في الوجه، وضياء في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سوادا في الوجه، وظلاما في القلب، وضيقا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق."
4) وهن القلب. المؤمن قوته في قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه.
5) تعسير أموره. فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقا دونه أو متعسرا عليه أي يحرم التوفيق، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي.
6) ومنها سقوط الجاه والكرامة عند الله وعند خلقه. (7)" ومن يهن الله فما له من مكرم." (
* التوبة النصوح خير علاج .
ومن الأسباب المعينة على ترك المعاصي: أن يتأمل الانسان نعم الله عليه وعلى الخلق التي لا عد لها ولا حصر، وإحسانه الذي لا ينقطع لحظة، فهو الذي خلق وهو الذي رزق، وهو الذي يمدنا بالأنفاس " ومابكم من نعمة فمن الله."(9) نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهداية والرشاد، ورغم ذلك خيره إلينا نازل وشرنا إليه صاعد، لا إلاه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلنستح فنتوب إلى الله فنقلع فنندم ونفر من المعصية ونكره أن نعود إليها كما نكره أن نقذف في النار ولنكثر من الاستغفار ولنحذر معصيته سبحانه " لأن الذنوب تزيل النعم ولابد، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أومثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها،(10) قال تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم." (11) قال الشاعر الحكيم: "إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم." فالذنوب والمعاصي نار ملتهبة تأكل النعم كما تأكل النار الحطب، وهي سموم للقلب وأسباب لمرضه وهلاكه.وإذا أصيب المرء في قلبه فأقم عليه مأتما وعويلا. أعاذنا الله وأياكم من زوال نعمته وتحول عافيته. وما على المسلم إلا أن يستجيب لما يحيي قلبه، ويسعده في الدنيا والآخرة، ويسرع بالتوبة إلى الله عز وجل. " ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا، عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار." (12) وقال تعالى: " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات." (13)
* التربية طريق النهضة
إن التربية الإيمانية الروحية أساس التربية الإسلامية الصحيـحة المتكاملـة وركيزتها الكبـــــرى فما أحوجنا لإصلاح نفوسنا وتطهير قلوبنا وتقويم أخلاقنا، اهتداء بكتاب ربنا، واقتداء بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين." إن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونوا إلى تربية إيمانية صحيحة، إلى عقيدة صحيحة وراسخة، إلى عقل واع وفكر صاف وفهم مستنير، إلى قلب تقي نقي، فبسبب ضعف التربية هذا، وبعدهم عن النمهج الأصيل حل ما حل بهم من ضعف وهوان وتمزق، فتكالب عليهم الأعداء، وتداعت عليهم الأمم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها."(14)
* هوامش:
1) من رسائل الإمام حسن البنا 2) من رسائل الإمام حسن البنا
3)( الآية 1،2،3 الأنبياء) 4) مقولة لأحد الحكماء
5)( الآية 59 مريم ) 6) ( الآية 30 الشورى )
7)الجواب الكافي لابن القيم
( الآية 18 الحج )
9)( الآية 53 النحل ) 10) الجواب الكافي لابن القيم
11)( الآية 11 الرعد ) 12) ( الآية 8 التحريم )
13) ( الآية 70 الفرقان ) 14) في حوار أجرته لبنى شرف مع الدكتور معاذ حوى بموقع منارات