ظاهرة سوء سلوك الرموز الجزء الأول
ظاهرة سوء سلوك الرموز
فإن المربي هو حجر الزاوية، وعليه الدور الفعال والإيجابي، في عملية استخراج العقوق الدعوي من نفوس اتباعه، (فمن شاء استخرج العقوق من اتباعه)
روى الإمام أحمد في مسنده: عن الحارث بن يزيد البَكري، قال:
"خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة ـ وهي قرية قريبة من المدينة ـ فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطِعٌ بها، ـ أي ليس معها من يحملها إلى ما تريد ـ فقالت: يا عبدَ الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مُبَلّغِي إليه؟. قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله، وإذا رايةٌ سوداءُ تخفقُ، وبلالٌ مُتقَلِّدٌ السيفَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ما شأنُ الناسِ؟. قالوا: يريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهاً.
قال: فجلستُ، قال: فدخلَ منزلَهُ أو قال رحلَهُ، فاستأذنتُ عليه، فأذنَ لي، فدخلتُ فسلّمْتُ، فقال
هل كان بينكم وبين بني تميم شيءٌ).
قال: فقلتُ: نعم، قال: وكانت لنا الدَّبْرَةُ ـ أي الغَلَبة والنصر ـ عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطعٌ بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالبابِ، فأذنَ لها، فدخلتْ.
فقلتُ: يا رسولَ الله، إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزاً فاجعل الدهناءَ، ـ وهي صحراء معروفة في الجزيرة العربية ـ فحَمِيَتِ العجوز واستوفزتْ، ـ أي غضبت وثارت لقومها ـ قالت: يا رسول الله فإلى أين تضطَرُّ مُضَرَكَ؟. ـ أين تذهب قبيلة مضر إذا أعطيتَ الدهناء لقبيلة ربيعة وهي القبيلة التي أوفدت الحارث ـ.
قال: قلتُ: إنما مثلي ما قال الأول: مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها، ـ وهي الغنمة التي حملت حملاً ثقيلاً فماتت، وهو مثل يُضرب لمن فعل فعلاً أضر به نفسه ـ حملتُ هذه، ولا أشعرُ أنها لي خَصْماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوَافِدِ عادٍ!.
قال: (هِيهْ، وما وافدُ عادٍ؟).
وهو أعلمُ بالحديث منه، ولكن يستَطْعِمُهُ. ـ أي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يستمع إلى قصة وافد عاد من الحارث، مع علمه بهاـ.
قلتُ: أن عاداً قحطوا، ـ أي أصابهم القحط والكرب ـ فبعثوا وافداً لهم يقال له: قَيْلٌ ـ أي أحد الزعماء يستسقي ويدعو لهم بمكة ـ فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمرَ، وتُغَنِّيهِ جاريتان، يقال لهما: الجرادتان ـ وهما مغنيتان مشهورتان بمكةـ، فلما مضى الشهرُ خرج جبال تِهَامةَ، فنادى، اللهم إنك تعلمُ أني لم أَجيء إلى مريضٍ فأُداويهُ، ولا إلى أسيرٍ فأُفاديهُ، اللهم اسقِ عاداً ما كنتَ تسقيهِ. ـ أي أنه دعا في دون أدب، ولم يطلب سُقيا رحمة ـ.
فمرتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنودِيَ منها: اخترْ، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداءَ، ـ أي لم يحسن استغلال الفرصة، ولم يحسن الاختيار ـ فنودِيَ منها: خذها رماداً، رِمْدِداَ ـ أي أدق ما يكون الرماد ـ لا تُبقي من عادٍ أحداً.
قال: فما بلغني أنه بُعِثَ عليهم من الريح إلا قَدْرِ ما يجري في خاتمي هذا، حتى هَلَكوا.
قال أبو وائل: وصدقَ، قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم، قالوا: لا تكن كوافدِ عادٍ". [1]
وبتدبرنا لهذه القصة البليغة، وكيف انتهت بهذه النهاية المأساوية لمهمة الحارث بن يزيد البكري؛ مما جعلته يتذكر حادثة الغنمة الحمقاء، وكذلك قصة وافد عاد المشئوم.
وبقراءة سريعة لها نخلص إلى بعض الدروس القريبة:
1-أهمية اختيار الوافدين.
2-على الوافد ألا يخرج عن طبيعة المهمة التي خرج من أجلها فلا يدخل في تفاصيل رحلته قبل إنجاز المهمة.
3-نستفيد من موقف المرأة العجوز، فاعلية الفرد في التغيير الاجتماعي، وكيف أن قوة الحجة والغيرة على الحقوق العامة، والترفع عن المصالح الشخصية، كيف يؤدي ذلك إلى نتائج يستفيد منها المجموع، وبالتالي الفرد.
4-في موقف المرأة العجوز أيضاً، وغضبها على مصالح قومية عامة، ومكاسبها التي حصلت عليها، أن الإسلام يحترم دور المرأة ورأيها، ويقدر إيجابيتها في حركة المجتمع.
5-في طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، سماع القصة من الحارث مع علمه بها؛ يبين أهمية القصص، وكيف أن النفس الإنسانية يسرها سماعها وتكرارها، بلا ملل؛ إذا كانت بها عبر ودروس تربوية.
6-كيف أن انطماس بصيرة غير المؤمن، تجعل طريقة تفكيره غير سوية في كل الأمور، أي أن عدم إيمانه، نتج عنه منهجية شاذة في التفكير. وتدبر كيف أن عاداً، لا يدركون أن الله سبحانه موجود في كل أرض، وأنه أقرب لعباده، فليس هناك داع لأن يرسلوا وافداً يقطع القفار في مهمة قد تقضى في أرضهم، وكيف أنهم قد أرسلوا زعيماً لا يحسن الأدب في مهمته فيركن إلى مراتع السوء، وينسى مهمته القومية، ثم لا يتأدب في دعائه مع الله عز وجل، ثم في سوء اختياره للسحابة السوداء الشؤم.
7- كيف أن خطأ الفرد، يؤدي إلى ضرر المجموع، وتدبر ما فعله الحارث، وما فعله وافد عاد.