بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)﴾ (الحجر).
أنزل الله القرآن الكريم ليكون آخر الكتب المنزلة من السماء؛ لهداية البشرية إلى قيام الساعة، ومن ثم تعهد بحفظه، وتولى سبحانه صيانته، فلم يزل محفوظًا مصونًا من التحريف فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أما ما سبق القرآن الكريم فقد قال الله في حقها: ﴿اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ (المائدة: من الآية 44)، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا، فضاع.
عن يحيى بن أكثم قال: كان للمأمون- وهو أمير إذ ذاك- مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي، حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوَّض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاءنا مسلمًا، قال: فتكلَّم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى، قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال: انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلمَّا أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
وحفظ القرآن الكريم يكون في ثلاث صور:
.
1- الحفظ في الصدور وهذا هو الأصل، ويتم بالتلقي مشافهةً، فقد قرأه أمين الوحي جبريل عليه السلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقرأه الرسول- صلى الله عليه وسلم- على الصحابة رضوان الله عليهم وتلقاه التابعون عن الصحابة، وهكذا سلسلة متصلة إلى يومنا هذا إلى قيام الساعة.
2- الحفظ في السطور، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حين تنزل الآية أو الآيات يأمر كُتّاب الوحي بأن يكتبوها في مكانها من السورة، وظلت صحائف موزعة إلى أن جمعها أبو بكر رضي الله عنه في مكانٍ واحد، ثم جاء عثمان رضي الله عنه من بعد ذلك فنسخ منها نسخًا ووزعها على الأقاليم.
3- حفظ العمل، وذلك بأن يظل القرآن الكريم منهج حياة المسلم كفردٍ في نفسه وأسرته يُطبِّق أحكامه يحل حلاله ويحرم حرام حرامه، ويتأدب بآدابه وأخلاقه، كما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- فقد سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول- صلى الله عليه وسلم- فقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَىَ. قَالَتْ: فَإِنّ خُلُقَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْقُرْآنَ.
والمتأمل في الواقع يرى أن المسابقات الدولية والمحلية في حفظ القرآن الكريم وعلى رأسها جائزة دُبي الدولية جعلت نسخ حفظ القرآن الكريم في الصدور تتوزع في كل أنحاء الكرة الأرضية؛ حيث يتقدم في كل دولةٍ المئات إن لم يكن بالآلاف ليفوز أحدهم بتمثيل دولته، يتكرر ذلك في كل عام، ويتكرر في مسابقاتٍ أخرى؛ مما يجعلنا نجزم أنه لا تخلو دولة من مئات الحُفاظ لكتاب الله في صدورهم.
أما عن الحفظ في السطور ففي كل دولة يتم نسخ الملايين من القرآن الكريم عبر مجمعات ومؤسسات تقوم على ذلك مما يجعلنا نجزم أنه لا يكاد بيت مسلم يخلو من عديدٍ من النسخ من القرآن الكريم ولا توجد دولة في العالم لم يصلها نسخ من القرآن الكريم.
تبقى الصورة الثالثة حفظ العمل تحتاج من كلِّ مسلم لمجاهدة وصبر ومصابرة ليطبع نفسه وبيته وخلقه بالقرآن الكريم، ومن أعظم تلك الأخلاق الصدق والأمانة والحياء والوفاء بالعقود والوعود، كما تتجلى الأخلاق القرآنية في معاملة المسلم مع مَن يُحيط به: معاملة الابن مع أبيه وأمه، ومعاملة الآباء مع أبنائهم، ومعاملة الزوج لزوجه، ومعاملة الزوجة لزوجها، ومعاملة المسلم مع جاره، في البيت والعمل، وإن شئت فقل صبغ الحياة في كل مجالاتها بروح القرآن الكريم وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وحين تكثر هذه النسخ ويصير القرآن الكريم حيًّا يتحرك بيننا، ونورًا تشرق به بيوتنا، وهدى ترشد به معاملاتنا، حينئذٍ ينعم كل مسلمٍ بالسكينة والطمأنينة، ويشعر بالأمن والأمان، وترفرف السعادة والرخاء على المجتمعات.
والمتأمل في علل الأمة الإسلامية يرى أن علة العلل هي الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها، والارتياح إلى الأوضاع الفاسدة، والتبذير الزائد في الحياة. فلا يهمه غير مسائل الطعام والشراب واللباس مطالب الجسد، ولا يقلقه الفساد المستشري من حوله، ولا يزعجه الانحراف الذي يُحيط به من كلِّ مكان، ولا يهيجه الظلم والاستبداد الذي تصطلي به البلاد والعباد، والبلسم الشافي لتلك العلل لا يكون إلا بتأثير القرآن والسيرة النبوية إن وجدا إلى القلب سبيلاً؛ لأنهما يحدثان صراعًا بين الإيمان والنفاق، واليقين والشك، بين المنافع العاجلة والدار الآخرة، وبين راحة الجسم ونعيم القلب، هذا الصراع أحدثه كل نبي في وقته، ولا يصلح العالم إلا به، وحينئذٍ تهب نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد لا يشبه العالم القديم في شيء.
وهذا الأثر الطيب المبارك لا يتحقق في الواقع إلا إذا تدبر المسلمون معاني القرآن الكريم ووقفوا على أحكامه، وتأثروا بذلك في نفوسهم وحياتهم، وليعلم المسلمون أن تأثير القرآن الكريم في نفوس المؤمنين بمعانيه لا بأنغامه، وبمَن يتلوه من العاملين به، لا بمَن يجوده من المحترفين به، ولقد زلزل المؤمنون بالقرآن الأرض يوم زلزلت معانيه نفوسهم، وفتحوا به الدنيا يوم فتحت حقائقه عقولهم، وسيطروا به على العالم يوم سيطرت مبادئه على أخلاقهم ورغباتهم، وبهذا يعيد التاريخ سيرته الأولى.
إن إحياء معاني القرآن الكريم في النفوس، ودفع الجيل القادم من الشباب في العالم الإسلامي أن يتنافسوا في حفظ القرآن الكريم في صدورهم يبشر بغد مشرق ومستقبل واعد فإن مَن نشأ في صغره على حفظ كتاب الله، حفظه الله، وجعله معين خير، ومصدر إسعاد لمَن حوله.
كما أن القرآن يغرس في النفوس معاني العزة والإباء، ورفض الذل والضيم، ويفرض علينا الجهاد والتضحية، والترفع عن الإخلاد إلى الأرض، والتحليق في الآفاق العلا، والتطلع إلى جنات عرضها السماوات والأرض، ويجعل من الموت في سبيل الله أسمى أمنيات المسلم.
جيل هذا شأنه يكون الله معه ويسخر له كل شيء، وحينئذٍ يكون النصر والتمكين للمؤمنين ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر مَن يشاء وهو العزيز الرحيم