الصيام في شهر رمضان يأتي ليتجاوز معناه الحرفي الذي عرفه علماؤنا بقولهم (الامتناع عن المفطرات في زمن محدد)؛ ليتعلم الإنسان الصائم التحكم برغباته، والتحلي بالإرادة الجيدة الهادفة إلى تغيير العادات السيئة التي اعتادها الشخص في حياته، فتجده إن كان قد انتصر على نفسه، ومنعها عن الحلال؛ مرضاة لربه، فيخرج وقد عقد العزم أن يمتنع عن الحرام، وذلك من خلال الدور الرقابي الذاتي الذي يرافق أداء الفريضة التي تتميز بسريتها وخصوصيتها بين العبد وربه؛ لكن المطلوب لتؤتي الفريضة ثمارها، أن يتحول هذا الدور الرقابي من إطار الاعتياد واللا وعي إلى إطار الملاحظة والوعي، فالصائم يمتنع لا شعوريًّا عن المفطرات، دون أن يفكر بقدرته تلك على الامتناع، وإمكانية تعديتها إلى ممنوعات أخرى في غير الصيام، فملكة التحكم بالإرادة واحدة لدى الإنسان، ويمكن أن تنمو في بعض المجالات عندما تعزز الإرادة، فالصائم بصومه إنما يُدِين نفسه، ويُقيم الحجة على اعتذاره عن التقصير في شئونه الأخرى الدينية والدنيوية.
وقد نوهت آيات الصوم صراحةً على عدم قصدية الامتناع عن الطعام والشراب في الصوم لذاته، فنصت أن الله يريد اليسر ولا يريد العسر بالناس، فالمُبْتًغَى ليس المشقة إنما امتحان إرادة المسلم، وتنبيهه إلى مراقبة نفسه، واستشعاره بالمسئولية في شئونه، وقد جاءت نصوص السنة تؤكد هذه المقاصد في شريعة الصوم، والتي تتجاوز ترك الطعام والشراب إلى ترك سائر المنهيات لا سيما المتجاوزة في آثارها إلى الغير، فـهو قد تعلَّم في مدرسة الإسلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (رواه البخاري)، وقد جاءت الأحاديث تترًا لتؤكد دور الصوم في تنمية الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه في سلوكه وحديثه، كما في الحديث القدسي الذي رواه الإمام البخاري (أنه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ" (صحيح البخاري) وفي رواية الإمام مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْمًا صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ" (صحيح مسلم).
وفي هذه إشارة كريمة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار؛ وليكن معلومًا أن أخلاق الصائم ليست وقفًا على شهر رمضان، وإنما هي مطلوبة في كل وقت؛ ولكنها تتأكد في رمضان وبصيام رمضان، فالصوم إذن يضع المسلم أمام قدراته الذاتية، ويصور له إمكاناته المستقبلية، وعندما يدرك المسلم هذه القدرات والإمكانات سيشعر بتقصيره في عمله وبقدرته على تجاوز أخطائه، وبالتالي سينمي الصوم لدى المسلم الشعور بالمسئولية في الحياة عمومًا وبالخصوص نحو الوقت، والجسد، والمجتمع، والقدرة على اتخاذ القرار، كما يؤكد الصوم للمسلم تمتعه بالحرية والإرادة والعقل، وقدرته على التحكم في السلوك، فهو بمثابة دورة تدريبية يتعلم المسلم من خلالها كيف يتحكم في نفسه وشهواتها ورغباتها؛ ليخرج وقد ألزم نفسه بعض الوقت أن تمتنع عن بعض الحلال والمباح ليلزمها طوال الوقت بالامتناع عن الحرام، وهذا ما عبر عنه الشهيد سيد قطب- رحمه الله- في ظلاله عندما رسم ملامح الغاية التي من أجلها فرض الصيام، وهو يربط بين جهاد النفس وجهاد العدو، فيقول رحمه الله: (ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس، فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارًا لما عند الله من الرضا والمتاع.وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات.
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان. ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة... مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة، أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات، وذلك ارتكان إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه؛ ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري، فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري، أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾ (البقرة).
إن الله سبحانه يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وترضى عليه.
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾، وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم... إنها التقوى... فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثارًا لرضاه... والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا يتجهون إليه عن طريق الصيام.. ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾) انتهى كلامه- رحمه الله- في ظلال القرآن الشهيد سيد قطب (جـ1 صـ167- 168).
يتبع ...