بسم الله الرحمان الرحيم
دواء قلبك في ...(2) " أن تعرفه أولا "
اعلم أخي الكريم أرشدني الله وأياك وكل المسلمين إلى كل خير وبر، وصرف عني وأياك وكل المسلمين كل شر وضر.- وبعد أن شخصنا الداء في الومضة السابقة وباختصار شديد - أن أصل البلاء، وموطن الداء، وموضع الخلل، وهن أصاب القلوب بسبب حب الدنيا ،وكراهية الموت، وأن دعوة المسلمين لم تكن يوما من الأيام مجرد دعوة إلى تغيير المظهر فقط ، كما قنع كثير منا اليوم، حتى أصبحوا يعتقدون ، أنهم بمجرد إصلاح ظاهرهم يكونون قد تجاوزوا القنطرة ، مما ترتب على ذلك وجود عدد كبير ممن يحسبون على الدعوة وعلى الإسلام وعلى أهل الخير والصلاح في مظاهرهم، ولكن قلوبهم خاوية وأمراضهم وعللهم القلبية باقية. هنا تكمن المشكلة. فدعوة الإسلام لم تكن يوما لإصلاح الظاهر فقط، ولم تكن يوما أيضا لإصلام الباطن فقط، إذ أن الظاهر تبع للباطن، وبصلاح الباطن يصلح الظاهر إن شاء الله تعالى، إذ لا غنى عن كليهما.
وعليه فها أنا ذا أحاول وبالله التوفيق أن أفصل بعض الشيء، فالحديث العام قد يجدي نفعا بأن يلفت الانتباه إلى أهمية الموضوع المطروح كصفارة إنذار، إلا أنه لابد من وضع النقاط على الحروف وذلك بشيء من التفصيل والتدقيق ، ليكون الأمر أكثر وضوحا في الأذهان .
إن مما يؤكد أهمية الموضوع الذي بين أيدينا، أن مفردة القلب وردت في القرآن الكريم 122 مرة في حوالي 43 سورة، إضافة إلى ما ورد ذكره في الأحاديث النبوية الصحيحة، وفي تراثنا الثقافي بشكل عام. مما يفرض علينا أن نوليه عناية خاصة. فإنه كما للبدن فقه، فكذلك للقلوب فقه ولكنه من نوع آخر. ولبيان قيمة ذلك قال الله تعالى: " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور." وقوله تعالى أيضا :" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب، وألقى السمع وهو شهيد." ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب." رواه البخاري ومسلم عن أبي عبد الله النعمان بن بشير. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: " إن لله تبارك وتعالى في الأرض آنية،فأحبها إليه ما صفى منها ورق،وإن آنية الله عز وجل في الأرض قلوب عباده الصالحين."
سمي بالقلب من كثرة تقلبه، أو لأنه في لب الصدر، أو لأنه مركز الأوامر. قال أحد العارفين بالله :" الكعبة بيت الله في أرضه ،والقلب بيت الله في عبده ." نعم إنه مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط .
قال الشاعر: "إن الكلام لفي الفـــــــــــــــــــــــــــــؤاد وإنما.....جعل اللسان على الفؤاد دليــــــــــــــــــلا."
ويعبر شاعر آخر عن الفؤاد فيقول: " واتق الله فتقوى الله ما.....جاورت قلب امرء إلا وصـــــــــــــــــــل."
ليس من يقطع طرقا بطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلا.....إنما من يتقي الله البطـــــــــــــــــــــــــــل ."
وقال آخر: "لسان الفتى نصف ونصف فــــــــــــــــــــــــؤاده..... فلم تبق إلا صورة اللحم والــــــــــــــــدم."
"والحكمة العربية تقول: " المرء بأصغريه قلبه ولسانه." " والمرء مخبوء وراء لسانه." أي إذا تكلم كشف عما في قلبه.
إن الله تبارك وتعالى قد خلق الإنسان، والإنسان له ظاهر وباطن، صورة وحقيقة ،وفي باطنه أكثر الأعضاء، ومن أهمها وأشرفها وأفضلها القلب، ولا أقصد في حديثي هذا المعنى المادي أو العضوي، أي كتلة اللحم الصنوبرية الشكل المودعة في الجانب الأيسر من الصدر. إنما أقصد البعد المعنوي الروحي لهذه المضغة، نعم أقصد تلكم اللطيفة الربانية الروحانية، التي هي حقيقة الإنسان، التي من خلالها يعرف سر وجوده، وكيف يحقق سلامة وجوده، والغاية من وجوده، قال ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين، باب شرح عجائب القلوب: " اعلم أن أشرف ما في الإنسان قلبه، فإنه العالم بالله، العامل له، الساعي إليه، المقرب المكاشف بما عنده، وهو المخاطب والمطالب، والمثاب والمعاقب."
وقال أيضا :" الله تبارك وتعالى فضل الإنسان وشرفه وميزه على كثير من خلقه باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره وسعادته وأنسه، وفي الآخرة عدته وذخره. وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية واستخدام الإنسان للآلة، والقلب هو المطيع في الحقبقة لله تعالى، وإنما ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره."
وقال الدكتور محمد راتب النابلسي في حديثه عن وظيفة القلب :" إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله، وهو شعور أصيل لا يملأ فراغه شيء في الوجود، إلا حسن الصلة برب الوجود، وهذا هو جوهر العبادة."
فالبداية والمنطلق أن يتأمل الإنسان في نفسه، وأن يعرف حقيقة ذاته، ومكانته وقيمته،وطبيعة رسالته في الحياة،قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق." وقال تعالى: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون" اعرف نفسك بالضعف تعرف ربك بالقوة، واعرف نفسك بالفقر تعرف ربك بالغنى، اعرف نفسك بالجهل تعرف ربك بالعلم والحكمة.
قال ابن قدامة أيضا :" والقلب هو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، ومن جهل نفسه فقد جهل ربه، ومن عرف ربه فقد عرف كل شيء، ومن جهل ربه فقد جهل كل شيء، ومن جهل قلبه، فهو بغيره أجهل، وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وربهم."
إننا نريد أن نوقظ قلوبنا نحييها نصلحها، حتى تبدأ تستوعب، حتى تبدأ تفهم، تحس، تستجيب، تتفاعل، تتأثر...
فالقلب أخي المسلم جوهرة نفيسة لا اعتبار للانسان بدونها . فما على العاقل إلا أن يبحث عن قلبه ،فينظر صحته من مرضه، وحياته من موته، وإبصاره من عماه ، فعمى القلوب أشد من عمى الأبصار. قال ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه المشهورة :" اجتهادك في ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك." فالله عز وجل طلب منا العبادة ،وضمن لنا الرزق، وإذا نحن أقلبنا المعادلة بجهلنا – كم يفعل الكثير- فبالغنا في طلب الرزق، وقصرنا في الفرائض والعبادات والطاعات ، فإن النتيجة في مخالفة أمر الله خطيرة وخطيرة جدا، إنه سلوك يورثنا انطماسا في البصيرة وعمى في القوب ، أعاذنا الله وأياكم والمسلمين جميعا .اللهم اربنا افتح لنا بابا إلى معرفتك، واحيي قلوبنا بدعوتك، وأنرها باتباع سنة نبيك، واخرجنا يا ربي من ظلمات المعاصي وذلها، إلى واحة طاعتك وذكرك وحبك ورضوانك .وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وإلى لقاء آخر مع " عماري جمال الدين" و" دواء قلبك في ....."