بيـن النّجـاح الشّكلــي والنّجـاح الحقيقــي
هل هـو التّكاثر والجري وراء جمع الأمـوال من حلّ ومـن غير حلّ وبأيّ وسيلة؟ والحرص على التّكديس والتّجميع والمفاخرة والمباهاة؟ قال تعالى:" ألهاكم التكاثـر حتى زرتم المقابـر، كلاّ سـوف تعلمون، ثم كلاّ سوف تعلمـون"(1،4-التكاثر) أم هواللّهث لإرواء الشّهـوات وارتكـاب المنكـرات ونهب الممتلكـات بدعوى الحريّة والقوّة والبطولـة؟ أم هو السّعي لنيل الشّهـرة والنّجومية وتصدّر المجالس، وأن يُشار إليك بالبنان؟ أم هو استغراق العمر كلّه في اكتناز الثّروة وبناء الدّور وتشييـدها والتفنّن فيها، واقتناء السيارات الفاخرة آخر موضة والتباهي بهـا؟ ولا ينبغي أن ُيفهم من كلامي هذا أنّني أنتقد كلّ مسعى لطلب المال وكسبـه وأنتقص من شأنـه، كلاّ وألف كلاّ لأنّ من انتقد شيئا افتقـده فالمـال عصب الحياة. " نِعْم المال الصّالـح في يد الرّجل الصّالح " كما ثبت في الأثـر. قـال تعـالى:"يابني آدم خــذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"(31-الأعراف) وقال أيضا:"قلْ من حرّم زينة التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق"(32-الأعراف)
هنـــا يكمـن الــدّاء
فالخلل ليس في جمع المـال ولكن المبالغة في الاهتمام به، ونسيان الآخـرة، أو كسبه من غير حلّ، وإنفاقه في غير أوْجه الخيـر. الانحراف يحدث عندما يصبح الدّينـار والدّرهم أكبر همّنـا ومبلغ علمنا، حينما تتربـّع الدنيـا على سويداء القلوب. هنا يكمن الخطر ولذلك ورد في الدّعاء: " اللّهم اجعل الدّنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا." وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا المحظور في قوله تعالى: "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللّهو ومن التّجارة، والله خير الرّازقين"(11-الجمعة) وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال:"تعس عبد الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعطى سخط، تعس وانتكس...". قـال رسول الله صلّى الله عليه وسلـّم: "ألا إنّ الدّنيـا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون. فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء..."رواه أبو سعيد الخذري. الإشكال يحدث عندما ننتصر لذواتنا وأشخاصنا ونؤثر المصلحة الشخصية على المصلحة العامّة، على القيّم والمبادئ التي طالما آمنّا بها ودعونا إليها، وبذلنا الغالي والنّفيس للإقناع بها. فلنحـذرْ شهوات النّفس الخفيّة كحبّ الظّهور والبحث عن الأضواء والشّهرة والمجد،والأنانية المفرطة ممّا يجعلنا ننحرف عن السكّة، فمزيد من التّربية والثّقافة وتعميق الوعي.
وهنــا العـــلاج
فالقيم الحقيقية لا تتمثّل في المال والجاه والسّلطان، أو في الانكباب على لذائذ الدّنيا ومُتعهـا فهذه كلّها قيم زائلة زائفة، والإسلام لا يحرّم الطيّب منهـا ولكنّه لا يجعل منها غايـة لحيـاة الإنسـان. القيم الحقيقية أن تعي ذاتك، وتعرف ربّك حقّ المعرفـة، وتتفقّه في دينك، وتفهم الحياة من حولك وأن تنهج النّهج الصّحيح، وتسلك الطّريق القويـم وتتحلى بالأخلاق الفاضلة، وحينها تدرك قيمة المال في سلّم القيم. وأنّه وسيلة لاغاية، صحيح المال نعمة من نعـم الله فحبّ التملّك غريزة مركوزة في جبلة كلّ إنسان ولا يكره المال إلا شخـص مختلّ العقل، فكون المال من أعظم نعم الله أمر لا يختلف فيه اثنان،بل المال عصب الحياة وهو وسيلة وسبيل إلى السعادة والجنّة إنْ أُحسن استعماله، فكثير هم أصحاب الدّثور والأجور قديما وحديثا، فكن واحدا منهم.
نجـــاح موهـــوم
ولا أعتقد أن متلبّسا بحـرام ظالما لنفسه معتد على غيره -منتهكا لحدود الله من لا يأبـه ولا يشعر بخـزي وهو يتعامل برشـوة، أو أخذ أموال النّاس بغير حقّ– بإمكانـه أن يحقّق نجاحـا حقيقيّا وأن يتذوّق طعم السّعادة، ولو بلغت أمواله وممتلكاته وعقاراته عنان السّماء وإن عَدّ نفسه في عداد النّاجحين فهو موهوم وفي داخله مهموم، وهيهات هيهات لنجاحه أن يدوم. قال تعالى: "أيحسبون أنّما نمدّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون."(55،56-المؤمنون).
إنّ ما نلاحظه عليه وهو يمتطي أرقى أنواع السيارات ويضحك ملء فيه ويتقلّب في النعم، فإذا لم تكن هذه المواقف في طاعة الله فإنّها مجرّد طقوس وأشكال وتعبيرات خارجيـة لم تصدر عن الأعماق، وفي داخله صراع وقلق وتمزّق نفسي لايعلم مداه إلاّ الله عزّ وجلّ.
القـرآن الكريـم يوضّــح
قال تعالى:" ألم ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقيـن، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصّلاة، وممّا رزقناهم ينفقـون، والذين يؤمنـون بما أنزل إليك، وما أنـزل مـن قبلك، وبالآخرة هـم يوقنون، أولائك على هدى من ربّهم، وأولائك هم المفلحون"(1، 5-البقرة)، وقـال تعالـى :" فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنّة فقد فاز، وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغـرور" (185-آل عمران)
النّجاح الحقيقي هو: فهم الذّات والحياة من حولك، وتبنـي المبادئ والقيم الصحيحة، والالتـزام بالمنهج الصّحيح، والحرص على عدم التناقض مع هذه المبادئ والمثل التي آمنت بها. هـذا الذي يوصل إلى الفوز الحقيقي، ويورث السعادة الحقيقية. فاعمل ما يجب عمله واترك ما يجب تركه، وستجد أنك تتسلّق سلّـم النّجاح فهو بين يديـك، لا تبحث عنه بعيدا، لا تستصغر شأنك وقيمتك فأنت بإمكانك أن تكون ما تريد، وما تطمـح إليه، فلا تتردّد ولا تتأخّر.
لا نجـــاح بـدون تخطيـط وتنفيـذ وتقييــم
تعلّم أبجديات مفهوم النّجـاح، تعرّف على قطار التغيير من أين ينطلق؟ وأين يتّجه؟ ومن يقوده؟ وبصحبـة من؟ وكيف يسير؟ وماهي المفاتيح والوسائل والأدوات وكلّ المعطيات اللاّزمة؟ وماهي المراحل والمسافات التي يتوجّب قطعها؟ وما الأهداف والخطّة المناسبة من أجل السّعي لتحقيـق الرّؤية الحلم وأداء الرّسالة. وكي تنجح بادرْ إلى رسم رسالتك في الحياة، واسْعَ جاهدا لتجسيـدها على أرض الواقع. ابـدأْ الآن، شَخِّص أوضاعـك، أنجز الخطّة، أكتبها، وعند السّعي لتنفيذهـا وتطبيقها تأكّد أن عوائق كثيرة ستعترض طريقك وتنقص من مدى فاعلية ما خطّطتـه، فلا تقلق كنْ صبورا مرنا واحسنْ التصرّف والتكيف مع المواقف، فما هو ممكن يُنجز الآن وماعـدا ذلك يُؤجّل أو يُعدّل أو يُعوّض. قيّمْ إنجازاتك، لأنه إذا كان التّخطيط مُهِمّاً فالتقييم لا يمكن الاستغناء عنه. إذن حرّكتك باتّجاه التغيير تستلزم وتتطلّب تحقّق المعادلة التالية (تخطيط، تّنفيذ، تقييم.)
هــذا الطريــق فمــن السّــالك ؟
كم مرّة يقرأ المسلم سورة الفاتحة في صلاته؟ وكم مرّة يـردّد هذه الآيـات؟ " ...اهدنا الصّراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضّالين."(1، 7-الفاتحة) أكيد يفعـل ذلك مرّات ومرّات. فما الصّراط المستقيـم؟ لا أقـول في السّورة نفسها توجـد الإجابة بل في الآية نفسها. نعم إنه الصّراط المستقيـم، صـراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهدايـة من النّبيين والصدّقيـن والشّهداء والصّالحين، ومن سار سيرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدّين. وهل هناك أكبر وأجلّ من نعمة الهداية إلى الصّراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ قـال تعالى: "قل إنّني هداني ربّي إلى صراط مستقيم، دينا قيّما ملّة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين" (161، 163-الأنعام) وقال: " وقالوا الحمـد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رُسُلُ ربّنا بالحق."( 43-الأعراف ) وقال: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتد..."(90-الأنعام) لا يوجد في قاموس المسلم مثل هذه الهرطقـات المعبّرة عـن التّيه في صحاري المجهـول "...جئتُ لا أعلم من أين ولكنّي أتيتُ، وطريقي مـا طريقي، أطويل أم قصير؟ لست أدري." بل الأمور أوضح من الشّمس قـال تعالى:" لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا." (48-المائدة) وقـال: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني." (108-يوسف) وقال تعالى: "الم ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتّقيـن." (1، 2-البقرة) والآيات والأحاديث النّبوية كثيرة، وحسبنا سورة الفاتحـة فاقرأها وتدبّر معانيها جيّدا وتأمّل، تستمتع بنفحاتها المباركة وترتوي من نبعها المتدفّق الفيّاض، وتستلهم بعض أسرارها بما يَفتحِ اللهُ عليك من قبسات أنواره ودقائق أسراره. قـال تعالـى:"ومن يؤمن بالله، يهدِ قلبه."(11-التغابن) وقد ثبت في الحديث القدسـي عن ربّ العزّة أنّه قـال: "وعزّتـي وجلالي لو سلكوا إليّ كلّ طريق، واستفتحوا كـلّ باب مافتحت لهـم حتّى يأتوا خلفك يا محمد." فالطّريق معبّدة، محدّدة معالمه، معلومة مواصفاته منذ الأزل لا يزيغ ولا يحيـد عنه إلاهالك وهذا بشهادة القرآن الكريـم قال تعالى:"ومن يبتغِ غيرالإسلام دينا فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين."(85-آل عمران)
الاهتـداء إلـى الحـق يعصـم مـن الـزلل والانحــراف
ومن أجمل ما قرأت للشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليـه قولـه:" وجدير بالإنسـان في عالـم استوحش فيه الحقّ على هذا النّحو، أن يجتهد في تحرّيه وأن يلتزم الأخذ به، وأن يرجع إليه كلّما بعّدته التّيارات عنه. ولعلّ هذا هو السرّ في أنّ الله طلب إلى كلّ مؤمن أن يسأله الهدى، وكلّفه ألاّ يسأم من تكرار هذا السّؤال حينا بعد حين. ففي كلّ صلاة مفروضة أو نافلة يقف المرء بين يدي ربّه يقـول: "اهدنا الصّراط المستقيـم، صراط الذين أنعمت عليهم، غيرالمغضـوب عليهم ولا الضالين." ما هو هذا الصّراط المستقيم؟ إنّه ليس سكّة مطروقة في إحدى البلاد، ولا جسرّا مضروبا هنـا أو هناك. إنّه المنهج الذي يشقّه المرء لنفسه بين مشكلات الحياة، والخطّ الذي يتلمس فيه الصّواب بين وجوه الرّأي. وكلّما استمسك المرء بعرى الاستقامـة واستكشف الحقّ فيما يُعرض له من مسائـل اليوم والغد فإنّه يكون أدنى إلى التّوفيق، إذ الخطّ المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين، وصاحبه أبعد عن التخبط في شتى المنحيات والمنعرجات.على أنّ الإهتداء إلـى الحقّ والثّبـات على صراطه يحتاج إلى جهد ودأب، ويحتـاج كذلك إلى استلهام طويل من عنايـة الله...وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزّ به أمر جنح إلى الصّلاة يضمّ إلى عزيمته وجلده حول الله وطوله. وقد يخبط المرء في الدّنيا خبط عشواء، وقـد يصحبه خداع النّظر في تقديره للحقائق المحيطة به، ومعنى التصوّر الغلط للأشياء أن ينتقل المرء من ضلال إلى ضلال وألاّ يحسن السّلوك بإزاء أي واجب يُناط به أو أزمة يقف أمامها. فليستخدمْ الإنسان فكـره وحواسّه فـي تعرّف ما حوله، وليقرّر خطّة سيره بعيدا عن الظّنون والتخرّصات".
وعليه فلندرسْ مواقفنا في الحياة بذكـاء، ولنرسم منهاجنا للمستقبل علـى بصيرة، ثمّ نمضي بصدورنا للأمـام لا تثنينا عقبـة ولايلوينـا توجّس."(1)
أي بنيّ لا تجنح عن الهـدى النّاطق الواضح المبين. فإنّه كما قال تعالـى:" فمن كفر بعد ذلك منكم فقـد ضلّ سواء السبيل."(12-المائدة) وقـال تعالى:"ويوم يعضّ الظّالم على يديه، يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسـول سبيـلا."(27-الفرقان) فانتبهْ حتى لا تتنكّب الطريـق، واحذرْ خطوات الشّيطان واتّباع الهوى فإنّه كما قـال أحد السّلف: "لا يُخاف عليك التباس الطّريق، ولكـن يُخاف عليك غلبة الهوى." وقال آخر: "من لم يخلص يتعثّر."
طبيعــة الطريــق هكـــذا..
ومن المعلوم أن الطّريق ليس مفروشا بالورود والأزهار، فالعوائق والعوارض كثيرة ومتنوعـة، ذاتية وخارجية.قال تعالى: "الم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنـون، ولقد فتنـّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين."( 1،3-العنكبوت) وقال تعالى: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنـة أتصبـرون؟"(20-الفرقان). فالحياة الدّنيـا دارعمل وابتلاء واختبار ثم تنتهي وتـزول والمهيمن باق، والعاقل من يتفطّن لمثل هذه الحقائق الدّامغـة، ويتأمّل في قيمـة الوقت.فالقرون لحظة، والعقد لحظة والسنّة لحظة، والشّهر كذلك، والأسبوع ثم اليوم فالضحوة فالسّاعة، ودقّات قلب الانسان قائلة له عمرك دقائـق وثواني. والكيّس من ينتهزها في الخيـر. قـال تعالـــى: "ياأيّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا، واعبدوا ربّكم، وافعلوا الخيرلعلكم تفلحون."(77-الحج)
(1) ص 50،51،52 جدد حياتك- محمد الغزالي
فحذارِ من التعثّر أو الانحراف أثناء السير والرّؤية الواضحة للطّريق وما فيه من عقبات ومحن وابتلاءات تولـد عند السّالك الثقة والاطمئنان لأنها دليل على سلامة السّيـر. ومن لا يعرف معالم الطريق ولايدري عن منعطفاتها ومنعرجاتها شيئا، فقد تسلّمه للضياع.
ورحم الله من قالها بكلّ بساطة، وفي كلّ وضوح: "الطّريق من هنا"(1) ورغم كلّ هذا الوضوح، لا بدّ للسّالك من إيمان يهـدي قلبه، وصلة بالله تقوّيه، وهمّة ترفعـه، وعلم يبصره، وحكمة تسدّده، وصحبة صالحة تـؤنسه وترشده. إنّه لا أمل ولا انبعـاث ولا نهضة إن على المستوى الفردي أوالجماعي دون الرّجوع إلـى الله، ثم بنشـر الوعي والتعليم والتثقيف، والتربية والتكوين، وبناء شخصية الفرد بناء صحيحا متكاملا، ثمّ برسم الأهداف وتصميم الخطط وإنجاز المشاريع وإتقان العمل والتحرّك في إطار منظّم، مع التقويم والتقييم المستمرّ لكل خطوة نخطـوها ولكّل جهـد أوعمل ننجزه.
التنميـة بالإيمـان نظريـة صالحـة لكـل زمـان ومكـان
التنمية بالإيمان والعلم والتّخطيط والعمل منهج صالح لكل زمان ومكان. مقولـة أثبتتها التجربـة وأكّدها منطق التاريخ، منذ العصور الغابـرة وإلى يوم النّاس هذا. فنحن في عالـم لا يعترف إلاّ بالنّاجح والنّاجحيـن، لذا يتوجّب استغلال كل الفرص المتاحة لمن أراد أن ينطلق انطلاقـة جادّة، ويحقّق أحلامه وطموحاته المشروعة. قال الشيخ الغزالـي: "ويظلّ الإنتاج والنّجاح والمجد مجرّد أحلام لذيذة، في نفوس أصحابه، ولن تتحوّل إلى حقائق حيّة، إلاّ إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدّنيا مـن حسّ وحركـة."(2)
(1) الإمام حسن البنا
(2) ص 55-جدد حياتك-محمد الغزالي.
وتتحقّق البطولة لما نمحّص نيّاتنا، ونتجرّد من كـلّ هـوى أو شهوة من شهوات النّفس الخفيّة، ونجعل أعمالنا وأقوالنا وحركاتنا وسكناتنا خالصة لوجهه الكريم وهو أهل لذلك سبحانه عز وجل.
وعلينا ألاّ نستصعب الأمـور أو نعتبرها مستحيلة مُقفلـة كأن أقول: لا أستطيـع، لا أقدر، غير ممكن... وغيرها من المفردات والعبارات السلبية التي كثيرا ما نسمعها تتردّد على ألسنة البعض. ومن الأمثلة الرّائعة في ثقافتنا مقولة: "لا تقـل ذهبت أربابه كلّ من سار على الدّرب وصـل." وقيـل أيضا: "همّة الرّجال تهدّ الجبال" وقيل: "لو تعلّقت همّة ابن آدم بالثريّا لنالتها".
لا يختلف اثنـان فيما للبعد الإيمانـي الرّوحي الدّيني وكذا البعد الثقافي بصفة عامّـة من تأثيـر إيجابي وفعّال في تفجير طاقات الإنسان بإثارة ملكاته الفكرية والعلمية والفنيّة والمهارية والدّفع به نحو ساحات العطاء والإنتاج والإبداع. ولذلك تجد التربية الخلقية والدينية متضمنة في صلب كلّ المناهج والأنظمـة التربويـة لأنها تصنع وتنتج الإنسان الذي يريده ذاك المجتمع أو تلكم الأمّة.
كـن دقيقـا فـي مراقبـة نفسـك
وحتى لا نقع في الشّطط ونبالغ في التفاؤل، وأن لا ندع شيئا من الغرور يتسرّب إلى أنفسنـا على أنّنا الأقوى أو الأقدر أو شيء من هذا القبيل، ينبغي أن نعـود إلى أنفسنا ونراجع ذواتنا ونجدّد نياتنا من حين لآخر حتى يسلم سيرنا، ونقطع الأشواط والمراحل كلّها بسلام، فمعترك الحياة ليس بالأمر الهين، فالتسرّع تهوّر والتباطؤ تثاقل وخير الأمور أوسطها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "إنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى." وقد علّمتنا الحياة أن لا معنى لأيّ انتصار أو نجاح ما لم تصنع ذاتك وتنجح على هذا المستوى أوّلاّ.
وخلاصة القول في هذا الشّأن أنّه ينبغي على الإنسان أن يكون دقيقا في مراقبة نفسـه، وأن يسلك في ذلك منهجا وسطا واضحا، بمجاهدتها ومغالبتها إلى درجة التحكّم فيها والانتصارعليهـا. وإذا كان التحكّم في النفس أمر جميل ومحمود، فإن الأجمل منـه والأحمد كيف أحافظ على هذا التحكّم وهـذا الانتصار؟ وكيف أستمرّ عليه؟ ذلك لعمري ديْدن السّالكين قديما وحديثا، فخـذْ بحظّك منه ولا تعجز. وحسبنا ما قاله الأديب المصري المشهـور: "إنّ الخطأ الأكبر أن تنظّم الحيـاة من حولك وتترك الفوضى في قلبك، فصلاح العمل بصلاح القلب وصلاح القلب بصلاح النيّـة، ومن صفـا صُفِّي له ومن خلّط خلِّط عليه. فاعرفْ سياسة النفس واتقنْ ولوجها قبل ولوج العوالم الأخرى."(1) وما قاله رائد النّهضة والإصلاح في الجزائر: "لا يستطيع أن ينفع النّاس من أهمل نفسه، فعنايـة المرء بنفسه عقلا وروحا وبدنا لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس"(2).
وقد سمعت أحد الدّعـاة المصريين يدعو بهذا الدعاء: "اللّهم إنّي أعوذ بك أن أكون جسرًا يمرّون عليه إلى جهنّم، ثم يُرمى به إلى النّار."(3)
وما قاله الشيخ الغزالي في هذا الشّأن "إنّ علاج مشكلات النّاس وأدوائهم لا يقدرعليه إلاّ رجل حلّ مشكلات نفسه، وداوى عللها بالحقائق الدينيـة التي يعرفها، ومن ثمّ نرى ضرورة العمل لتنظيـم النّفس وإحكام الرّقابة عليها." وقولـه أيضا: "إنّ حملة الأدوية التي ينفعون بها ولاينتفعـون منها موجودون في الحياة فعلا."(4) ومن الأمثلة الشّعبية عندنا في الجزائر: "ابعّدْ في الذّبّـانْ عْلَى النّاسْ
وهو تاكلْ فيهْ لَعْقارَبْ."
(1) ص 442 من وحي القلم-محمد صادق الرافعي
(2) مقولة لابن باديس بمجلة الشهاب
(3) درس لمحمد حسان بقناة اقرأ
(4) ص 8 جدد حياتك محمد الغزالي
اقرأْ هذه الأقوال القيّّمة وتأمّلها جيّدا، وانظرْ إلى واقعك، وانتبهْ إلى حالك، واحذرْ أن تبالغْ في الاهتمام بشؤون الآخريـن وتنسى نفسك في هذا الخضم فإنّـه عين الإفلاس. واسْعَ لإفادة نفسك أولاّ وتطوير ذاتك وتنمية قدراتك الفكرية والوجدانية والبدنيـة والاجتماعيـة والماديّة، ولا بأس بعـدها أن تُسهم في النّهوض بشأن الآخرين. عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم..."
لكــل جـواد كبــوة
وأنت تحاول وتبادر قد تنجح وقد تفشل، فلا تهتم ولا تستسلم فقديما قالوا: "وراء كلّ عظيم امرأة." أما الآن فأصبحوا يقولون: "وراء كل ناجح سلسلة مـن الفشل."
وهذا الشاعر الأديب محمد الأخضر السائحي يحدّث عن نفسه فيقول بكلّ تواضع: "حياتي سلسلة من الإخفاقـات والانكسـارات." إذْ ليس منقصة أن تزلّ بك قدم وقد قيل: "لكلّ فارس كبوة." ولكنّ المنقصة والعيب في أن تسقط فلا تنهض. فاستعنْ بالله وأعدِ الكرّة مرّة ومرّة بل مرّات وستنجح بإذن الله عز وجل "وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب."(88-هود)
كثير من العلماء والعظماء كانوا مفلسين قبل أن يُصبحوا ناجحين لأنّك قبل أن تصل إلى النّجـاح غالبا ما تعترض طريقك عقبات وموانع وتحدّيات، وإذا لم تكنْ صبورا فلن تتخطـّى تلك العوائق، وستضطرّ للتنازل عن تحقيق أهدافك. فالثبات على الحقّ فضيلة والاستمرار في بذل الجهد واجب. والنّجاح في النّهاية عبارة عن نجاحات صغيرة أو سمّها عادات حسنة أو مواقف أو مبادرات، فكلّ نيّة أو قول أو فعل أو إنجاز وإضافة في الاتّجاه الإيجابي هو نجاح، وعلينا أن نثمّنه ونشيد بـه ولا نستصغر الأمـور مهما كانت بسيطة، فمعظم النار من مستصغر الشّرر كمايُقال.
شـروط النجـاح باختصــار
قال تعالى: "والعصر إنّ الإنسان لفي خسر، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر."( 1، 3-العصر) إذن فزاد السّالك لقطع الطـريق بسلام ونجاح كمـا ورد في النصّ
القرآني:1-إيمان عميق 2-وعمل للصالحـات 3-وثبات على الحق وعلـى أداء الرسالة 4-وصبـرعلى المحظور وعلى المأمـور وعلى المقدور.
واستمع إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يربّي الفرد المسلم التربية الرشيدة: "عجبـا لأمر المؤمـن إنّ أمره كلّه خير وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضّراء صبر فكان خيرا له."
نعم إنها خاصيّة مميزة يتفرّد بها المؤمن في دنيا الناس على سائر البشر، لأن الإيمان نصفـه صبـر ونصفه شكر، والإنسـان الذي يمكنه اتقان الصبر يمكنه اتقـان أيّ شيء آخر. إذا تسلّحْ بالعلـم، وتزوّدْ بالتّقوى، وتجمّلْ بالصّبر، تنجحْ إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة.
04 الباب الثانـي: المحطة الأولـى: الوعــي بالـــذّات
إبحــار فــي أغــوار النفـس
الذات:هي مجموعة الصفّات والخصائص النفسية والعقلية والجسدية، منها ماهو وراثي ومنها ما هومكتسب فكلّ إنسان نتاج بيئتـه. والوعي بالـذّات: أن تتعرّف على نفسك من خلال هدفك في الحياة، وطبيعة رسالتك في الوجـود، من خلال قيمك ومعتقداتك وتوجّهاتك الفكـرية والعلميـة والثقافيـة، وما خبِرْتَه وجرَّبْتَه في دنيا الناس. فتتشكّل لديك وجهة نظر معينة، ورؤيـة واضحـة ومحددة عن نفسك ككيان مركّب عجيب وآيـة من آيات الله في الكون. قـال تعالـى:"والتيـن والزيتـون، وطور سنين، وهـذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم..."(1، 4-التين) وقـال: "سنريهم آياتنا في الآفـاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحـق."(53-فصلت) وقال تعالى أيضـا كدعوة لاستعمال العقل والفكر والتأمل فـي ملكوت الله وخلقه: "قـل انظروا ماذا في السماوات والارض"(101- يونس) وقـال تعالى أيضـا: "الذين يذكرون الله قيـاما وقعـودا وعلـى جنوبهم، ويتفكـرون في خلق السماوات والارض، ربّنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك فقنا عذاب النار." (191-آل عمران) وقـد ثبت في الحديث الشريف: "ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتدبرهـا". فهل وفّينا العبادات الفكرية حقّهـا ومستحقّها، مثلما اصطبغت جوارحنا بالشّعائرالتعبدية ؟ أم ترانا مقصّـرون هنا وهناك؟ وإن شئت فاقرأ الآيات التالية وتدبرمعانيها جيدا قـال تعالى: "والشّمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنّهار إذا جلاّها، واللّيل إذا يغشاها، والسّماء ومابناها، والأرض وماطحاها، ونفس وماسوّاهـا، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها..."(1، 10-الشمس) "فقـد أقسم تعالى بستة من أعظم مخلوقاتـه وهي
الشّمس، والقمر)(والنّهار، واللّيل)(والسّماء، والأرض) وفـي السابعة ختم سبحانه عزّ وجلّ قسمه بالنّفس معلّقا عليها بأهم وأخطر ما يتعلّق بها، مختزلا قصّة الإنسان في هذا الوجود في بضع كلمات "بأن فلاحه وسعادته في الدارين مرهونان بتقواه وتزكيته لنفسه، وأنّ خسارته وشقاءه فـي الدّارين بسبب فجوره واتّباعه لهواه"، إشارة منه سبحانه عـزّ وجلّ وكعادة القرآن الكريم إلى قيمة وتميّز وتفرّد هذا المخلوق عن باقي المخلوقات الأخرى هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ هذه المخلوقات وغيرها وُجدت من أجل هذا الإنسان، فما السرّ والحكمة من ذلك ياترى؟ ألسواد عيونه كما يُقال، أم لأمر وحكمة وسرّ آخر علمه من علمه وجهله من جهله. حينما تقرأ الآية القرآنية التالية تعرف بعض السرّ، قـال تعالـى: "إنّـا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبـال، فأبينا أن يحملنها، وأشفقنا منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا." (72-الأحزاب) معنى ذلك أنّ الإنسان خليفة الله في أرضه وأهل لحمل الأمانة والرّسالة قال تعالى: "ياداوود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى..."(26-ص) فمن يكون هذا الخليفـة؟ هل هو "الإنسان ذلك المجهول" كما وصفه أحـد مفكري الغرب؟ أم هو غير ذلك؟ أعتقـد أنّ في ثقافتنا العربية الإسلامية وفي موروثنا الحضاري بصفة عامة إجابات وافيـة كافيـة شافية مقنعة بإذن الله تعالى لمثل هذه التساؤلات وما شابهها.
أيقـض (العمـلاق)
الرّابض في أعماقك وفجّر بركان طاقتك، وأطلق قدراتـك وإمكاناتك، فشأنك شأن الكنز المكنون اجتهدْ لاكتشافه وسبر أغواره. فهيّا نجرّب معا ونبحر في هذا الاتّجاه، علّنـا نظفر بصيد ثميـن، ونكتشف كل ما هو جميل وعميق وأصيل فينـا وفي خبايا هذا البحر المترامي الأطراف. قـال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون..."(21-الذاريات)
اعـرف ذاتـك: (عمـلاق)
ع):عيـش مـع الـذات
أنا من أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف أصل إلى ما أريد؟ وما جوانب قوّتي؟ وما جوانب ضعفي؟ لماذا لم أتغيّر؟ لماذا لا أكون سعيدا ؟ وأسئلة أخرى كثيرة...
أسئلة فلسفية قديمة حديثة، لطالما حيّرت وشغلت بال الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمثقفين حتى الإنسان العادي وما زالت. مع العلم أنّ سعادة الإنسان لا تكتمل بل لا تبدأ إلا بالإجابـة عن هـذه الأسئلة الكبرى. إذن نقطة الانطلاق وبداية البدايات أن تعرف من أين تبدأ؟
جوهــر الــذات
نعم من هنا ينبغي أن تبدأ، ومن هنا ينبغي أن تعلم وأن نعلم جميعا أن لا تغيير حقيقي دون المرور عبر هذه المحطّـة، التي أُحبّ أن أسمّيها (نقطة الانطلاق، نحو آفاق رحبة) إذن من هنـا يبـدأ التغييـر، ومن هنا تبدأ الرّحلـة وتنطلق القاطـرة. أن تعرف نفسك أي أن تعـي ذاتك. وفـي الأثـر:"ما هلك مـن عرف قـدر نفسه." "عـاش من عرف قدر نفسه" "اعرف نفسك تعرف ربك"، وهكـذا...
قال تعالى: "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشرا من طين، فإذا سوّيتـه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين."(71-ص) فأنت قبضة من طين ونفخة من روح. أنت كائن مركب من مادّة وروح، من جسد كثيف وروح لطيف، من صلصال كالفخار وهو عالم الطين، قـال تعالى: "منها خلقناكم، وفيها نعيدكـم، ومنها نخرجكم تارة أخرى."(55-طه) أرضي وسماوي، ربّاني وحيواني. فأنت قابل أن ترْق إلى أن تُصبح شبيها بالملائكـة، وأن تهبط إلى أن تصبح كالحيوانـات بل دون ذلك. قـال تعالـى:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافليـن"(4، 5-التين) وبتمييزك العقلي وقناعاتك الرّاسخة، بعقيدتك وإيمانك، بإرادتك وكامل حرّيتك، تختار أيّ الطّريقين تسلك قال تعالى: "إنا هديناه السبيل، إمّا شاكرا وإما كفورا"(3-الإنسان) وعند الموت تصعد الرّوح إلى باريها ويعود الجسد إلى أصلـه التراب. إذن المعادلة كالتالي: (جسد+روح+عقل=إنسان) فالبدن وحده غير مكلّف، والرّوح وحدها غيرمكلّفة، وكذلك العقل وحده. وإذا اجتمع الثلاثة سُمّي المركّب: "النفس البشرية"وهي المكلفة شرعا. وسُمّي إنسانا: أي مخلـوق يميز ويعقل، ويتأمّل في كون الله ويدرك الحكمـة. فالإسلام يحترم النفس البشرية والإنسان من حيث هو إنسان، قال تعالـى: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضّلناهم على كثيـر ممّن خلقنا تفضيلا"(70-الإسراء)
وقد شمل التّكريم الإلهي الوجود الآدمي بصفة عامّة بغضّ النّظر عن دينه وإثنيتـه وجنسه بحيث سخّر له الكون كلّه، جعله في الأرض خليفة، أنزل عليه الكتب، أرسل إليه الرّسل، ومن أجل هذا حرّم الإسلام قتل النّفس إلاّ بالحقّ. فهذا رسـول الله صلّى الله عليه وسلـّم يقوم احترامـا لجنازة تمـرّ، ولمّا قيل له إنّها جنازة يهودي، قال المرسول رحمـة للعالمين: "أليست نسمة؟ أي نفس، ماأروع الموقف! وماأروع التعليل! فكفـره لم يكن مبّررا لهضم حقوقـه كإنسان آدمي. فالإنسان مكرّم في أصل خِلْقتـه، حيث نفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكـة، مكرّم في طبيعتـه، فلا يشبهه أيّ مخلوق آخر، مكرّم في رسالته، لأنّه لم يُخلق سدى، بل من أجل رسالـة نبيلة يؤدّيهـا. قال تعالى: "إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا..." (72-الأحزاب) فالإنسان متفرّد في نطقه في مشيه في صورته في تفكيره ومشاعره... قال تعالى:" الّذي أحسن كلّ شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين."(7-السجدة) وقال: "الرّحمـان، علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان..."(1، 4-الرحمن)
وقال: "ألم نجعل لــه عينين، ولسانا وشفتين، وهدينـاه النجدين." (8،10- البلد)
وتأمّلْ بالمقابل الحمار وهو ينهق، وانظرْ إلى البقرة كيف تمشي على أربع، وإلى الحيّة كيف تزحف على بطنها، ويكفي للدلالـة. جعل له الأرض ذلولا، سخّر لـه كلّ المخلوقات، بل الكون كلّه مسخّـر لصالح صاحب هذا الحجم الصغير، وصدق الشاعر الحكيـم حين قــال:
أتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالَم الأكبـر
وكما أنّ خلاصة القرآن الكريم هي صورة الفاتحة، فإنّ خلاصة هذا الكون هـو الإنسان، وأوّل ما خلق الله القلم، وآخر ما خلق الإنسان. "فقصّة حياتك وهوّيتك وعمرك أعظم صرح يُبنى فـي هـذا الوجود، فكنْ خيرَ مهندسٍ له وكنْ كيّسا فطنا، وأدّ مهمّتك بصدق وأمانة تَفُزْ إنْ شاء الله في الدّنيـا ويوم القيامة.
رأسمــالك الحقيقـــي
ألا تعلم بأنّ: رأسمالك الشّخصي هو مصادرك الجسمية والفكريـة والنفسية التي تنمـو وتتطـوّر باستمرار، فماذا فعلت في هذا الاتّجاه؟ أم أنّك من الذين يحسبون أن رأسمالهم هو ما اجتمع لديهم من مال ومن ذهب وفضة. فاصْغِ معي جيّـدا إلى الشيـخ محمد الغزالـي وهو يبين رأس المال الحقيقي: "إنّ رأسمالك الأصيل جملة المواهب التي سلّحك القدر بها، من ذكاء وقدرة وحرية، وفي طليعة المواهب التي تُحصى عليك وتعتبر من العناصر الأصيلـة في ثروتك، ما أنعم الله به عليك من صحّة سابغة، وعافية تتألّق بين رأسك وقدمك، وتتأنّق بهـا في الحياة كيف تشاء. والغريب أنّ أكثر الناس يزدرون هذه الثروة التي يمتلكونهـا، لا يشركهم أحد فيها أو يزاحمهم عليها...
وهـذا الازدراء جحود يستحقّ التنديد والمؤاخذة، قـال"ديل كارنجي": "أتراك تبيع عينيك في مقابل مليون دولار؟ كم من الثمن تظنّه يكفيك في مقابل ساقيك أو سمعك أو أولادك أو أسرتك ؟" أحسب ثروتك من هذه المواهب الغاليـة، ثم اجمـع أجزاءها وسوف ترى أنّهـا لا تُقـدّر بالذهب الذي جمعـه آل"روكفلر" وآل"فورد". بيْد أن البشر لا يقدّرون هذا كلّه؟ إنّنا كما قـال فينـا "شوبنهور":"ما أقـلّ تفكيرنا فيما عندنا وما أكثر تفكيرنا فيما ينقصنا" فهل نذكر هذا الفضـل؟ وهل نقدّر هذه النّعمـة؟ وهل نشكر عليها؟ فأصحاب النّعم مطالبون بمزيد من الجهد والنّشاط كفاء ما أُوتوا من خير ومُنحوا من برّ. ما أغلى العافية التي تسري في أوصالنا! وما أثمن القوى التي زوّدنا الله بها! وما أشهى الثّمار التي نقطفها لو أحسنّا استغلالها ولم نهدر قيمتها! إنّ الإسلام يريد أن يلفت أنظارنا بقوّة إلى نفاسة النّعم التي تكتنفنا، وإلى ضرورة الإفادة منها. فهو يرى الحياة نعمة ويطلب إلينا أن نشكره على ما وهبنا من روح وإحساس، وسخّر لنا من ليل ونهار، ومكّن لنا بين الأرض والسّماء. إنّ هذه الحياة الممتازة الرّاقية تكريم خاصّ ينبغي أن نعتزّ به، وأن نبصر حق الله فيه، والله قد منحنا الحواس المعروفة لنتجاوب مع الوجود، ونتعرّف ما فيه، ونتذوّق بملكاتنا المادية والأدبية جماله وقواه قـال تعالـى: "والله أخرجكـم من بطون أمهاتكم لا تعلمـون شيئا، وجعل لكم السّمع والأبصـار والأفئدة لعلّكم تشكرون."(78-النحل)
قال العالم النفساني "وليام جيمس": لو قسنا أنفسنا بما يجب أن نكون عليه لاتّضح لنا أنّنـا أنصاف أحياء، ذلك أنّنا لا نستخدم إلاّ جانبا يسيرا من مواردنا الجسمانية والذهنية.أو بمعنى آخر أنّ الواحد منّا يعيش في حدود ضيّقة يصنعها داخل حدوده الحقيقية، فإنّه يمتلك قوى كثيرة مختلفة ولكنّه لا يفطن إليها عادة، أويخفق فــي استغلالها كلّها."(1)
(1)ص 136- جدد حياتك –محمد الغزالي
أنت نسيــج وحــدك
أنا من أنا؟ أنت كنز مكنون، وجوهرة نفيسة، أنت نسيج وحدك، قـال تعالـى:"يا أيّـها الإنسان ماغرّك بربّك الكريـم الذي خلقك فسوّاك فعدّلك في أيّ صورة ماشـاء ركّبك."(6، 8-الانفطار) وقـال الشيخ الغزالي: "قال ديل كارنجي:"إنّك شيء فريد في هذا العالم. إنّك نسيج وحدك فلا الأرض منذ
خُلقت رأت شخصا يشبهك تمام الشّبه، ولا هي في العصور المقبلة سوف ترى شخصا يشبهك تمام الشّبه، إنّنا مخلقون بدقّة تثير الرّهبة وتستدعي الإعجاب، وحتّى بعد التقاء أبويك أحدهما بالآخـر وتزاوجهما فإنّ احتمال خروجك أنت بالذّات إلى حيّز الوجـود نسبة 1 إلى 300000 بليـون.
أو بمعنى آخر لو أنّ لك 300000 بليون أخ وأخت لكانوا جميعا مختلفين عنك مناقضين لك فلكـلّ إنسان قالبه البدني لا يماثله فيه أحد، وكيانه المعنوي الباطن الذي يتميّز به عمّن سواه.(1)
كـلام نفيـس أجـدر بـأن نتأملــه
وقال الشيخ الغزالـي:"...هذا المزاج المعنوي، أو هذا الكيان النّفسي هو حقيقة المرء التي تهب له وجـوده المستقل، وتميّزه بخصائصه الذاتية فلا يماثله فيها أحد، وبما أن سلوك المرء إن هو إلاّ الخطّ الذي ترسمه له طباعه وميوله وغرائزه وذهنه، فلا جرم أن يكـون لكلّ امرىء خطّه الذي لا يشاركه فيه أحد، ووجهتـه التي يتميّز بها من دون النّـاس.
(1) ص 147 جدد حياتك- محمد الغزالي
قال تعالى:"ولكلّ وجهة هو مولّيهـا" وبما أنّه عسير جدّا على الإنسان مهما حاول أن يكون غيره، فلكلّ إنسان شخصيته المستقلّة، فإذا هو حافظ على هذا الاستقلال،ودعّـم أصوله وزكّـى فروعه،
وعاش في نطاق ذاتيته الخاصّة فقد مضى على سنة الله، إذْ أراده أمة وحده ودولة قائمة بذاتها.. وإذا هو لم يعرف لنفسـه حقّها، فنافق الرّؤساء ومن إليهم، أو مضى يقلّد بعض ذوي الشّهرة في حركاتهم وأصواتهـم ومظاهرهم وطريقة آدائهم للأعمال، أو راح على غير سجيّته يتكلّف الأمور
ويرائي النّاس في تصرّفاتـه، فقد جانب سنة الله وأهدر شخصيتـه وغيّر خلق الله الذي آثره به وسوّاه عليه."(1)
خصـائـص وصفات الإنسـان قبـل أن يؤمــن
إذا سبق وأن عرفت حقيقة الإنسان، وجوهر الذّات ولو باختصار، لنحاول تحت هذا العنوان ولوج باب آخر يتعلّق ببعض خصائص ومميزات الإنسـان قبل أن يؤمن، لأنه بعد أن يؤمن ويسلم -لا شكّ أنّه- يصبح شيئا آخر غير الذي كان من قبل.فالمطلّع على القرآن الكريم، وكذلك السنّة النبوية على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التّسليم، وأقوال الصّحابة، والسّلف وحتّى الخلف، بل موروثنا الثّقافي عامّة حافل بالحديث عن الإنسان وطبيعة النّفس البشرية، أنواعها، وأطوارها، وما يعتريها من حال منذ نشأتها أوّل مرّة إلى غاية انتقالها إلى عالم الغيب، (مولدها، مسارها، ومصيرها). وما نستنتجه ونحن بصدد قراءة وتدبّر الآيات القرآنيـة التي تتحدّث عن هذا المخلوق العجيب الصّنعة.
(1) ص 150 جدد حياتك-محمد الغزالي.
نخلص إلى الحقائق التاليـــة:
- أيّ إنسان مفطور على الإيمان والتديّن، ولو كان ملحدا.
- الإنسان حين الشدّة يتّصل بفطرته ومولاه.
- يتميز المؤمن بأنّه يعرف ربّه ومولاه عند الرّخاء وعند الشدّة. لا تفرح بإيمان يأتي عند الشدّة فقط، افرح بإيمان سابق ومستمرّ والمثل المشهورعندنا:"اعرف ربك في الرّخاء يعرفك عند الشدّة."
وهذه بعض الآيات القرآنية التي تشير إلى بعض هذه الخصائص والصّفات :
*"ضعيف" قال تعالى: "يريد الله أن يخفّف عنكم وخُـلِق الإنسان ضعيفا." (28- النساء)
أقلّ سبب ينهي له حياته، وعلى سبيل المثال لا الحصر: قُوّتُه كلّها في سيولة دم لو تجمّد لانْتَهَ، أو تحت رحمة هرمون تفرزه غدّة ما لو قلّ إفرازه لأصبحت حياته جحيما لا يطاق.
*"يؤوس" قال تعالى:"وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسّه الشرّ كان يؤوسا." (83- الإســراء)
*"يؤوس قنوط" قال تعالى: "لا يسأم الإنسان من دعاء الخيـر، وإن مسّه الشـرّ فيئوس قنـوط." (49-فصلت)
*"آثم وكفور" قال تعالى: "فاصبر لحكم ربّك، ولا تطع منهم آثما أوكفورا." (24-الإنسان)
*"ظلوم جهول" قال تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا." (72- الأحزاب)
*"عجول" قال تعالى:"ويدع الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير، وكان الإنسـان عجولا." (11-الإسراء)
*"قتور" قال تعالى: "فلو أنتم تملكون خزائن رحمة ربّي إذا لأمسكتم خشيـة الإنفاق وكان الإنسان قتورا."(100- الإسراء)
*"هلوع، جزوع، منوع" قال تعالى: "إنّ الإنسان خُلق هلوعا، إذا مسّه الشرّ جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا." (21.20.19- المعـارج)
*"مُجادل" قال تعالى: "وكان الإنسـان أكثــر شيء جــدلا."(54- الكهف)
*"خصيم مبين" قال تعالى: "أولم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين." (77- يس) *كنود، شديد الحب للمال" قال تعالى:"إنّ الإنسان لربّه لكنود، وإنّه على ذلـك لشهيد، وإنه لحبّ الخير لشديد." (8.7.6- العاديات)
*"فاجر" قال تعالى: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه" (5- القيامة)
*"مغرور" قال تعالى: "ياأيّها الإنسان ماغرّك بربّك الكريم." (6- الإنفطار)
*"كادح" قالى تعالى:"ياأيّهـا الإنسـان إنـّك كـادح إلـى ربـّك كدحا فملاقيـه." (6- الإنشقاق)
*"يطغى" قال تعالى: "كلاّ إنّ الإنسان ليطغى."(6-العلق)
*"نفسه أمّارة بالسّوء" قال تعالى: "وما أبرئ نفسي إنّ النّفس لأمّارة بالسّوء إلا ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم."(53- يوسف)
*"لا يؤمن بالقدر خيره وشرّه" قال تعالى: "وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقـه فيقول ربّي أهانني." (16- الفجر)
*"يعرف ربّه عند الشدّة فقط" قال تعالى: "وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشرّ فذو دعاء عريض."(51- فصّلت)
نــداء الفطـــرة
قـال تعالـى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم"(30-الروم) وقـال رسول الله صلّى الله عليـه وسلّم:"ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه..." روا ه أبو هريرة
وهنا إشـارة إلـى أنّ الإسلام هو الفطرة، فما الفطـرة؟ أنت عندما تخطئ وتقترف خطيئة تحسّ بالذّنب وبآثار المعصيـة تلاحقـك تلكم هي الفطرة. وعندما تؤدّي طاعة ما، تشعر بالرّاحة والاطمئنـان فتلكم أيضـا هي الفطرة لأنّ البرّ ما اطمأنّت إليه النّفس والإثم ما حاك في الصّدر وكرهتَ أن يطّلع عليه النّاس، كما ورد في الحديث الشريف. فالعاصي ولو كان غنيّا ولو احترمه النّاس، تجده دنيء النّفس حقير الذّات، ولأنّه ما فتئ يظلم نفسه تراه منكسرا ذليلا مهينا، يتصرّف تصرّفا غير حكيم، وهنـا تبدأ فطرته تعذّبه. أمّا الصّادق قد يكون من عامّة النّاس أو من أفقرهم لكنّـه يشعر بعزّ الطاعـة وعزّ الكمال والفطرة أن تحبّ الكمال، وأهل الأرض كلّهم كذلك، وهذا لا يعني أنّهم كاملون. فأنت إن فعلْت الكمال ارتحتَ وأحسستَ بشيء لا يوصف ولا يُتصوّر، أحسستَ برحمة تجلّـي رضى فرح سرور غنى لذّة إيمان، لأنّك طبّقت منهج الله واصطلحت مع نفسك أي مع الفطرة. فالسّعـادة في طاعة الله، في أن تصطلح مع الله، وحينما تصطلح مع الله دون أن تشعر تصطلح مع نفسك. قال تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة."(26-يونس) لأنّ منهج الله وخصائص نفسك متطابقة تماما، ولأنّ أدقّ دقائق الشّـرع متطابقة مع الفطرة. فالتوافق أنّك مؤمن يعني سعيد قويّ الشّخصية متواضع عزيز، لا تأخذك في الله لومة لائـم. فالذي انسجم مع الفطـرة هادئ وديع حياته بسيطة، كلامه لطيف، أعصابه متينة، رحيم حكيم كريم عفيف شجاع متسامح...الخ.) فهـو أقرب إلى الفطرة وأبعد ما يكون عن الفتنة. أمّا من ابتزّ أموال النّاس بالباطل وضرب هـذا وسفك دم هذا، وظلم وطغى وتجبّر تجـد عنـده متاعب كثيـرة اضطراب قلـق ضغط خوف من المجهول، ردود أفعال قاسية جدّا، اختلال توازن شرخ عميق، احتقار للذّات. والحلّ أن يصطلح مع فطرته ومع ربّه لإعادة التّوازن المفقود. وحتّى يرجع سويّا لابدّ أن يعود إلى الصّواب ويقبل به، ليتناغم وينسجم مع فطرته. فالإنسان بناء الله واستقامة البنيان تقتضي استقامة العقيدة.إذن ذاتك فطرتك هي مكمن الإعجاز والحكمة والمعرفة، لأنّها هي الدّافع لتحقيق الإنجازات والمعجزات في الأرض. فأصل قيمتنا هي الفطرة، وهي قيمة عليا لا تعلوها قيمة إلا الإيمان والعلم والعمل الصالح.
واعلم أنّه لن يَتَأتَّ لك أيّ علم إلاّ إذا عدت لنفسك واكتشفت ذاتك، وعرفت علّة وجودك وسبيل ذلك: التأمّل فيها، تتعرف عليها، تُبْصرها جيّدا، تألفْ بها وتأنسْ تَصحبُها، وهي التي تدفعك بعد ذلك للتأمّل في ملكوت الله وخلقـه وآياته في الكون والحياة، ومن ثم تُدين له بالولاء والطّاعة.
واعلم أنّ النّموذج البشري في كلّ هذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث تجسّدت فيه القيمة الحقيقية للإنسان، وتحقّقت فيه كل عناصر ومعايير الإنسانية، من آدم عليه السّلام إلى قيام السّاعة. نموذج بشـري آخر حقّق الكمـال الذاتي والإنساني، ويتمثل في سيدنا ابراهيم عليه السلام. سمّاه الله عزّ وجلّ فـي القرآن الكريم: حنيفـا ومعناه: المستقيم الذي لا عوج فيه. فأوّل ما بدأ، تأمّل ذاته، واستحضر الفطرة، فأدرك أن لهذا الكون ربّ واحد لا شريك له، فلمّا صاحب معرفة الله في فطرته، سمّاه الله خليل الرحمـان. وانظرْ إلى سيدنا الخضر عليه السّلام، كيف عرف وأبصر عدّة حكم وأسرار بفطرته. قـال تعالـى: "اتقوا الله ويعلّمكم الله" (282-البقرة)
صبغــــة الله
الإنسان قبل أن يؤمن لـه خصائص وصفات، ذكرها القرآن الكريم في أكثر من آية وأكثر مـن سورة وبعد أن يؤمن تصبح له مواصفات أخرى. فالفرق صارخ بين المؤمن وغيره، اقرأ القرآن بتدبّر تدركْ هذه المعاني وهذه الحقيقة جيّدا قال تعالـى: " أومن كان ميّتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منهـا"(122-الأنعام) وقال تعالى:"يهدي الله لنوره من يشاء"(35-النور) وقـال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لذاك الصّحابي الجليل الذي أخبره بأنه أصبح مؤمنـا: "عبد نوّر الله قلبه بالإيمان عرِفْتَ فالـزمْ" فالإيمان نقلة نوعية في حياة الإنسان بل انقلاب وتحوّل جذري عميـق وشامل من نمط حياة إلى نمط حياة آخر، ومن منهج إلى منهج، ومن اتّجاه إلى اتّجاه آخـر معاكس تمامـا، اختلاف عبّـر عنه القرآن الكريم بقولـه تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار".(24، 26-ابراهيم)
المؤمن يشترك مع غيره في الفطرة والآدمية والبشرية والأصل الإنساني والجانب البيولوجي ويختلف عنه في النيّـة والمقصد، في العقيدة والتفكير والمشاعر والسّلوك، في الأثر والتّأثيـر، فالإنسان فُطِر أي بُرْمِج على حبّ الرّحمـة والإحسان والتّسامح والعدل والإنصاف وكلّ القيم الأصيلة المتجدّرة فيه وهي صفات الكمال،